الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

ظلال الدِّين وثِقْل الحرية

 

ظلال الدِّين وثِقْل الحرية

حين تتحول الأزمات إلى امتحانٍ للروح قبل الجيوب


 

قد يبدو الاقتراض في أول وهلة كمخرجٍ يلوح في الأفق المظلم، كنافذة صغيرة يتسلل منها بعض الهواء، لكنه ليس أكثر من عبورٍ وهمي بين جدارين متقابلين. إنه نقلٌ للثقل من كتف إلى آخر، كما لو أننا نغيّر الضمادة دون أن نقترب من الجرح ذاته. فالأزمة لا تُمحى بمجرد تبديل حاملها، بل تُعاد صياغتها في هيئة جديدة قد تكون أشد وطأة وأطول ظلاً.

هو أشبه بما يحدث حين يعجز إنسان عن حمل حجرٍ ثقيل، فيتوهم خفته إذا ما وُضع على كتف غيره. لحظة قصيرة من تنفسٍ كاذب، سرعان ما تتحول إلى قيد مضاعف، إذ يُقترض من المستقبل ليُرتهن به الحاضر، وتُستبدل الحرية بوهمٍ مؤجل.

والأرقام حين تكبر لا تبقى مجرد أعداد على ورق. إن ضخامة الرقم لا تُقاس بما تبلغه من خانات فحسب، بل بما تحمله من تبعات تتجاوز المال إلى الروح، إلى حرية القرار، إلى اتساع الخطى. هي أحمالٌ لا تكتفي بتقييد الضمانات، بل تُضيق مساحة الحلم، وتترك صاحبها يتردد عند كل منعطف. ومثلما لا يُباع البحر لمن لا يُحسن السباحة، لا يليق أن تُساق الذات إلى دوامة تفقدها توازنها في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى رسوخٍ وثبات.

لكن الأرقام، مهما بدت جافة، لا تبقى حبيسة الورق. فهي تنزلق إلى النفوس، وتضغط على القرارات، وتستدعي العاطفة لتبحث عن مخرجٍ سريع. وهنا تبدأ النفس في التعلق بأي حبل، ولو كان هشًا. فالعاطفة تُغري بالاندفاع، فهي دافئة لكنها خادعة، تُنير الحاضر لتُخفي الغد. أما العقل، فهو ذاك المصباح البعيد، لا يُغري بسطوعٍ لحظي، لكنه يرسم الطريق بأناة ووضوح. ليس إنكارًا لقيمة القلب، بل اعترافًا بأن الأزمات الكبرى لا يُداويها إلا بصيرة نافذة، تزن العواقب ولا تُسلم الروح إلى قفزات عمياء.

والثقة بين البشر، مهما كانت راسخة، ليست معبرًا لعبور الحقائق المغلقة. فالمحبة لا تعني أن نُسلم مصيرنا إلى المجازفة، والثقة لا تعني أن نغضّ الطرف عن ثِقلٍ قد يُحني ظهورنا. بل قد تكون أصدق معاني الثقة أن نقول: *أخشى أن أحملك ما لا طاقة لك به*، لا أن نُسلمك إلى مصير مجهول باسم الود.

الزمن، وهو الكريم دائمًا، يعلّم أن الأزمات مهما طالت فإن لها نهاية، وأن الصبر ليس استسلامًا بل فنٌّ في مواجهة الواقع كما هو، لا كما نريد أن يكون. وأصعب الحلول قد يكون أكثرها أمانًا، حين نقرر أن نحمل جرحنا بأنفسنا، ونخوض امتحانه حتى النهاية، بدلاً من أن نُسلّمه لغيرنا فيتحول إلى سلسلة لا تنقطع.

فالعلاقات الإنسانية، حين تُبنى على الصراحة، لا تتهشم باختلافٍ عابر، بل تُزهر. إن الخلاف، حين يصدر عن الحرص، يصبح امتحانًا للصدق وفرصة للنمو معًا، لا حاجزًا للفراق. وربما تكون الأزمات المالية – في جوهرها – صورة من صور الشرط الإنساني ذاته، ذاك الذي يُمتحن فيه البشر في كل زمان ومكان بقدرتهم على الصمود دون أن يفقدوا إنسانيتهم، وعلى مواجهة ثِقل الأرقام والقرارات بالوعي لا بالهروب.

إن الطريق الذي يبدأ صعبًا لكنه حقيقي، يبقى أرحم من الطرق المستعارة التي لا تؤدي إلا إلى متاهات تتشابه مخارجها. فما الجدوى من الخروج بأي ثمن إذا كان الثمن هو أنفسنا؟ الأجمل أن نخرج من المحنة ونحن أوفى، أحرارًا، أصلب، قادرين أن نقول: لم نهرب، لم نخدع، بل واجهنا وتجاوزنا.

وهنا تتكشف الحكمة: فالأزمات ليست مجرد امتحان للقدرة على الدفع، بل امتحان للقدرة على أن نكون كما نريد أن نكون. ومن يخرج من الظلمة وهو أكثر إنسانية، أكثر صلابة، وأكثر وفاءً، يكون قد ربح ما لا يُشترى بالدَّين ولا يُقاس بالأرقام. إنها دعوة لأن نتذكر دائمًا أن قوة المرء لا تُقاس بما يقترضه، بل بما يتحمل، وبالقدرة على أن يجعل من المحنة فرصة للنهوض لا ذريعة للانكسار.

وهكذا تتحول الأزمات من محنة إلى منحة، حين نعي أنها امتحان للروح قبل أن تكون امتحانًا للجيوب، امتحان للقدرة على أن نظل واقفين في وجه الريح، وأن نتحمل مسؤولية أنفسنا دون أن نرهن حريتنا أو نثقب مراكب من نحب. ومن يخرج منها وفي قلبه بقايا دفء، وفي عينيه بريق أمل، وفي خطاه رسوخٌ لا يتزحزح، يكون قد عاد أكثر إنسانية، أعظم وعيًا، وأشد قدرة على العطاء. فالكرامة بحر لا يُباع، والحرية كنز لا يُقترض، والنصر الحقيقي أن نخرج من الظلمة حاملين نورًا لا يكفي لأنفسنا وحدنا، بل يفيض على كل من يمضي بجوارنا.

لأننا في النهاية، لا نُختبر فقط بما نكسب، بل بما نختار أن نحمل. فأن تحمل جرحك خيرٌ من أن تورثه، وأن تواجه ألمك خيرٌ من أن تُسلمه لغيرك باسم الحب أو الثقة. فبعض الأعباء لا تُقسم، وبعض الكرامات لا تُستعار. ومن يختار أن يواجه، لا أن يُورّث، يكون قد كتب لنفسه فصلًا جديدًا من الحرية، لا يُقاس بالأرقام، بل يُقاس بالصدق، وبالقدرة على أن يظل واقفًا، مهما اشتدت الريح.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

  على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!   "تأملات في فن البقاء: حين يكون الوعي مَلْجَأً، والثقة صدقًا، والحرية مسؤولية"   ...