في هندسة الصعود: حين
ينهض المستقبل دون أن ينسى ظلاله
"لكل
صعودٍ ظلٌّ ينبغي أن يُؤخذ في الحسبان، فالنور لا يكتمل إلا حين يُنير ما تحته"
النمو ليس قفزة في الفراغ، بل نَفَسٌ طويلٌ تتردّد أصداؤه في شرايين الزمن، يتشكّل من الحلم حين يُصغي للعقل، ومن الخطة حين تُعانق الخيال. تتسارع الدول في بناء نهضتها كما تتسارع النجوم في انبثاقها، تُطلق قراراتها كمن يُطلق سهامًا نحو الغد، تُشيّد مدنًا لا تُشبه الماضي، وتُعيد رسم الخرائط لا وفق ما كان، بل وفق ما ينبغي أن يكون.
كل شيء يتحرك: الإسمنت، الأفكار، اللغة، حتى الذاكرة تُعاد تشكيلها لتواكب هذا الاندفاع. تُبنى الجسور لا لعبور الأنهار فقط، بل لعبور الفجوات بين الحلم والواقع، بين الممكن والمأمول. تُصبح اللوائح أنظمةً للزمن، وتُصبح الخطط مرايا للمستقبل.
لكن في هذا الاندفاع، ثمة ما يُنسى. ليس عن قصد، بل عن انشغالٍ يُشبه الغفلة. تُنسى تلك الدول التي لم تُمنح ترف الانطلاق، التي ما زالت تقف عند أول الطريق، تُحدّق في الأفق ولا تملك مركبة، تُنصت لصوت التقدم ولا تملك لغةً للرد. الفقر ليس فقط نقصًا في المال، بل هو خمولٌ في الموارد، وتكلّسٌ في الحلم، وانطفاءٌ في العين التي لا ترى إلا الحاضر.
هذه الدول لا تعيش في الماضي، بل في حاضرٍ لا يتحرك، حاضرٍ يُراقب ولا يُشارك، يُسجّل ولا يُكتب. وهنا، تتبدى المفارقة: هل يمكن للصعود أن يكون إنسانيًا؟ هل يمكن للنهضة أن تُبنى دون أن تُصبح جدارًا يُقصي من لم يلحق؟ إن فكرة التقدم، حين تُمارَس دون التفات، تُشبه من يصعد سلّمًا في الظلام، لا يرى من خلفه، ولا يسمع من تحته. ليست المشكلة في الصعود، بل في نسيان أن الطريق ذاته يحتاج إلى تمهيد، لا فقط لمن يركض، بل لمن يتعثر أيضًا.
ليست الدعوة هنا إلى الإبطاء، ولا إلى توزيع الحمل بالتساوي، بل إلى شيء أدق: إلى أن تُمنح الدول الأخرى أدوات التفكير، مفاتيح الرؤية، خرائط الاحتمال. أن يُشاركها من سبقها خلاصات التجربة، لا كمن يُلقي دروسًا، بل كمن يُضيء شمعة في طريقٍ آخر. الدعم لا يعني المال دائمًا، بل يعني أن تُمنح القدرة على الحلم، أن تُستعاد شرارة الإمكان، أن يُقال لتلك الدول: "لست وحدك في هذا الكوكب، ولست خارج الزمن".
إن العالم ليس سباقًا، بل نسيجًا. وكل خيطٍ فيه، مهما بدا ضعيفًا، يُسهم في تماسك الكل. حين تُبنى المدن، يجب أن تُبنى معها القدرة على الحلم. وحين تُصدر اللوائح، يجب أن تُؤخذ في الاعتبار تلك الأصوات التي لا تملك منابر. فالمستقبل، إن لم يكن مشتركًا، لن يكون مستدامًا. والنهضة، إن لم تكن ذات ظل، ستُصبح وهجًا يحرق من لا يملك سقفًا.
"إن الإنسان لا يُصبح إنسانًا إلا حين يُدرك أن وجوده مرتبط بوجود الآخر، وأن الصعود لا يُقاس بالعلو، بل بما يُضيء في الطريق." إيمانويل ليفيناس.
ثمة استعارة لا تغيب: أن الصعود الحقيقي لا يكون إلا حين يحمل في طياته من لم يستطع أن يصعد. أن تكون النهضة جسراً، لا برجًا. أن يكون التقدم نهرًا، لا جدارًا. أن تُصبح الفكرة ذاتها، فكرة النمو، مشبعةً بالرحمة، لا بالاستعلاء. أن يُعاد تعريف النجاح، لا كمن وصل، بل كمن أوصل معه آخرين.
في النهاية، ليست الفكرة أن نُبطئ، بل أن نُضيء. أن نُدرك أن الصعود،
حين يكون بلا ظل، يُصبح قفزًا في الفراغ. وأن النهضة، حين تُبنى على تجاهل الآخر،
تُصبح هندسةً ناقصة، لا تُعمر الأرض، بل تُقسمها. فالمستقبل، حين يُبنى على
المشاركة، يُصبح أكثر من زمنٍ قادم: يُصبح وعدًا، ويُصبح وطنًا للجميع.
جهاد غريب
سبتمبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق