الأربعاء، 24 سبتمبر 2025

بين قمةٍ تُبنى وذاكرةٍ تُلاحق

 

بين قمةٍ تُبنى وذاكرةٍ تُلاحق

 

عن الإنسان الذي يشيد مناراته وهو يجرّ خلفه خيوط الذكرى

 


 

مرايا العمر المتكسّرة

تمرُّ سنوات العمر، لا كالنهر الهادر، بل كأمواج متلاطمة تترك على شاطئ الوعي حطامَ علاقاتٍ وومضاتِ ذكريات. جلستُ، كما يجلس المرء أمام مرآة الزمن، أتساءل عن بصمات الوجوه التي عبرت حياتي: الأصدقاء، الأقارب، زملاء العمل. تلك الشبكة المعقدة من الصلات التي تُنسج منها أجزاءُ هويتنا. وفي قلب هذا التيه من التساؤلات، تبرز أمامي سيرة امرأة، قصةٌ استثنائية، ليست حكايةَ صعودٍ مألوف، بل هي لوحة إنسانية رسمتها امرأة جعلت من الطموح فنًا، ومن العطاء مشروع حياة.

 

المرأة التي تُعلّم من على قمة جبلها الشخصي

ليست مجرد معلمة تؤدي وظيفة، بل هي مؤلفةٌ لمشروع حياتها على صفحات الأجيال. خمسة وعشرين عامًا، أودعت فيها عصارة فكرها وروحها في تربية النشء داخل جدران القطاع الخاص. كانت الفصول الدراسية مسرحها، والعقول النقية هي مادتها الخام، والإرث الفكري هو منتوجها النهائي. ثم، في لحظة تحولية، قررت أن تنتقل من كونها لبنة في جدار المؤسسة، إلى أن تكون هي مهندسة الجدار نفسه. قررت أن تؤسس مركزها التعليمي الخاص، حاملةً على عاتقها رؤيةً تربويةً متكاملة، لتجمع حولها نخبةً من الخبراء، وتُطلِق مشروعًا يكون امتدادًا لخبراتها وترجمةً حيةً لشغفها التربوي الذي لا يعرف حدودًا.

ها هي، تقف على قمة إنجازها الخاص، تطلُّ على آفاق مستقبلها الواسع. تخطط، تشرف، تُنظّم، وتحقق الغايات. إنها لحظةٌ يغمرها ضوء النجاح ويبدو فيها المستقبل مشرقًا كشمس منتصف النهار. ولكن، حتى على قمم الجبال، هناك همسات وهموم صغيرة لا تهدأ.

 

الفلسفة والمفارقة: حين يصبح الطموح بوابةً إلى الماضي

وهنا تكمن المفارقة الإنسانية العميقة. ففي خضم الحديث عن المخططات المستقبلية، أثناء مكالمة هاتفية مثلًا، نجد أن خيط الحديث عن الطموح ينزلق، لا إراديًا أحيانًا، إلى سراديب الذاكرة. نبدأ بالحديث عن تطلعاتنا المستجدة، فنجد أنفسنا فجأةً ننقب في ذاكرة عمرها ربع قرن، نستعيد مواقفَ، وندوبًا، وصراعاتٍ ربما ظنّناها طويت تحت غبار السنين.

هذا الانزياح الطفيف، هذا "التنقيب" اللاإرادي، هو بمثابة ظلّ يلاحق ضوء المستقبل. إنه يُعَطِّل، ولو للحظات، إضاءة بعض الزوايا في ذلك المشروع الواعد. وكأن العقل، في ذروة انطلاقته نحو الأمام، يربط خُطاه بسلاسل من زمنٍ مضى، سلاسل لا نراها لكننا نحسّ بثقلها.

لماذا نفعل ذلك؟ لأن المساحات الذهنية المخصصة لـ "بناء الغد" تظل حساسة وهشة. إن التركيز على المستقبل يتطلب طاقة هائلة، وأي شرود نحو الماضي، حتى لو كان طفيفًا، يشكل هدرًا لهذه الطاقة. إنه كمن يحاول تشييد صرح شامخ، بينما هو منشغل بإصلاح التشققات في أساسات قديمة. التشققات التي حفرها مسير السنين.

 

المنارة الوهمية: عندما نخلد ظلّنا خلفنا

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في وجود الذكريات بحد ذاتها، فهي تشكّل نسيج رحلتنا، بل يكمن في أن نمنحها منصبًا لم تُخلق له: أن نُسلمها مفتاح البوصلة. فالمنارة الحقيقية تُشيّد من أجل الآخرين، لتُنبئ بالساحل وتقي من الغرق. أما ذلك البناء الوهمي، فإننا نَبنيها بأنفسنا، من ركام أحلام قديمة وندوب لم تندمل تمامًا. نرفعها في ساحة الذاكرة، لا لتضيء الطريق إلى الأمام، بل لتجعل من ماضينا نقطة جذبٍ دائمة.

وهنا يكمن التناقض الأليم: نحن بحاجة إلى نور نهدي به طريقنا، ولكننا، أحيانًا وببراعة لا واعية، نصمم نورًا يسرقنا من حاضرنا. أليست هذه الآلية الدفاعية، في جوهرها، محاولة يائسة لاستدعاء الأمان عبر التعلق بما نعرفه، حتى لو كان ألمًا مألوفًا؟ قد نتمسك بها لأن وهجها، وإن بدا خادعًا، يمنحنا شعورًا زائفًا بالاتصال والهوية، كمن يخشى أن يضيع إذا محا المعالم التي تعود عليها، حتى لو كانت معالم شقاء.

لكن السؤال الأهم: هل يمكن لهذه المنارة الوهمية أن تتحول إلى منارة حقيقية؟

الإمكانية قائمة، ولكن بشروط. ذلك يحدث فقط عندما نوقفها عن مهمة الإضاءة للهروب إلى الماضي، ونبدأ بمهمة جديدة: الإضاءة للفهم. حين ننظر من خلال ضوئها لا لنتألم من جديد، بل لنتعلم كيف تشكلت تضاريس روحنا، وكيف انعكست على خطواتنا.

وهذا التحول ليس حكرًا على الفرد وحده، بل هو بصمة مجتمعية أيضًا. فالمجتمعات التي تختار أن تجعل من ماضيها مُختَبَرًا للحكمة بدلًا من أن يكون ساحة للصراع، والتي تتبنى فلسفة الفهم لا فلسفة الحنين الأعمى، هي وحدها القادرة على تشييد منارات جماعية تهديها نحو مستقبل أكثرَ إشراقًا وتسامحًا.

عندها، تتحول المنارة من مجرد إشارة حنين أو ندم إلى بوصلة فهم ذاتي، تُعلمنا بالمياه الضحلة التي يجب تجنبها، لا أن تدفعنا للعودة إليها. وهنا، ربما يجدر بكلٍ منا أن يتوقف لحظةً ليسأل نفسه: أي منارةٍ أرفع في داخلي؟ وهل الضوء الذي تشعه ينير لي الطريق إلى الأمام، أم يعيدني القهقرى إلى شواطئ قديمة لم أعد أملك إلا ظلالها؟

وهكذا، يصبح الماضي عتبةً لا يُقف عندها، بل يُعبر من خلالها. الفرق الجوهري ليس بين نسيان الماضي أو تذكره، بل بين أن تكون ذاكرتك سجنًا يغلق عليك أبواب المستقبل، أو تكون مكتبةً تزودك بالحكمة للإبحار نحو آفاق لا تعرفها بعد. والخسارة الفادحة تكمن في البقاء واقفًا على عتبة البوابة، نُهدر طاقاتنا في ترميم آثار الأمس، بينما عوالم البناء والخلق تنتظر على الجانب الآخر.

 

تأسيس "إمبراطورية" الذات

هذه السيدة، بعظمتها ورؤيتها المتقدة، لا تَبني صرحًا معرفيًا فحسب، بل تُؤسس إمبراطوريةً للإنسان. إمبراطورية قوامها لا حجارةٌ أو حدود، بل قِيَمٌ راسخة، وتأثيرٌ وجدانيٌّ يلامس الأعماق، ومعرفةٌ تزرع بذور التغيير. إنها إمبراطورية لا تُقاس بمساحة الأرض، بل بمساحة العقول التي توقظها، والقلوب التي تلمسها، والأرواح التي تُلهمها. وربما يكمن سرّ متانة هذه الإمبراطورية في تلك الفلسفة الخفية التي تتبناها: فلسفة التعامل مع الذاكرة ليس كمقبرةٍ للندم، بل كمخزونٍ للحكمة.

ليس المطلوب محو الماضي، فهذا محال، بل المطلوب هو تحرير البوصلة الداخلية من سطوة الأمس. أن نتعلم كيف نحمل ذاكرتنا كحقيبة سفر خفيفة، نأخذ منها ما يفيدنا في الطريق، لا أن نحملها كصخرة ثقيلة نجرّها خلفنا. أن نجعل من الذاكرة أداةً للحكمة، لا سجنًا للطاقة. الفرق بين الماضي كمصدر إلهام والماضي كسجنٍ هو قرارٌ وحيد. قرارٌ بإطفاء ذلك الضوء المضلّل الذي لا يزال يشعُّ نحو الوراء، وإشعال شعلةٍ جديدة في أعلى قمة نصل إليها، لتكون دليلًا لا يضلّ طريقًا، يشعُّ نحو الأمام فقط.

فالمستقبل المشرق، في نهاية المطاف، هو حصيلة النظر إلى الأفق الواسع الذي لا تحدّه إلا امتدادات رؤيتنا، بينما تستريح دروس الماضي في مكانها الآمن، كخريطةٍ للمسار المُقبل، لا كقيدٍ على الخطوة التالية.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تصبح المعرفة مقاومة

  حين تصبح المعرفة مقاومة   "السوسيولوجيا والبحث عن المعنى في التشظي العربي"     لا يزال صمت الأطلال يحمل همس الأسئلة التي...