الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025

الجذور التي ترويها الدموع!

 

الجذور التي ترويها الدموع!

 

"رحلة معلّمة من الألم إلى الحكمة"


 

تأتي بعض الدروس من الكتب، وتأتي أخرى من التجارب. لكن أعظم الدروس هي تلك التي تولد من قلب الجرح، حين يتحول الألم إلى معلم صامت، والدموع إلى نهر يروي أرض الروح. هناك، في المساحات التي بين الخسارة والتعلّم، تنبت الحكمة ببطء، وتزهر رغم العواصف.

بين جدران الفصل الدراسي، حيث تتهامس حروف اللغة العربية مثل أوراق الشجر في رياح الخريف، وقفت المعلمة أمام تلاميذها. لم تَعُد تحمل فقط قصص الماضي، بل ذلك العمق الذي لا يأتي إلا من رحلة داخلية طويلة. لقد علَّمتْهُم من قبل كيف يحبّون اللغة، واليوم جاءت لتُعلِّمهُم كيف يقرأون الحياة.

كانت تعرف أن الجرح الذي تركه الغدر لا يلتئم بالنسيان، بل بالاستفادة من أعماقه. فقررت أن تحفر في تربتها الداخلية، لا بحثًا عن كنز مفقود، بل عن الجذور التي تربطها بذاتها. في صمت لياليها، حوّلت حبر الألم إلى خرائط للوجود. لم تعد تكتب لتهرب، بل لتكتشف. اكتشفت أن قلبها ليس بيتًا مهدّمًا، بل أرضًا خصبة، وأن الدموع التي سالت لم تكن علامة ضعف، بل كانت الريّ الذي أنبت في داخلها حديقة من الحكمة.

بدأت ترى نفسها لا كضحية للخيانة، بل كَبستانيّة خبيرة تعرف الآن أيّ البذور تزرع وأيّها تترك. لم تَعُد تخشى الوحدة، بل صارت تتعامل معها كرفيقة صادقة تسمح لها بسماع صوت روحها بوضوح. حتى الظلال في طريقها لم تَعُد تخيفها، لأنها أدركت أن وجود الظل دليل على أن هناك نورًا يسقط في مكانٍ ما.

في الفصل، لم تَعُد تقدّم لتلاميذها القواعد النحوية فقط، بل "قواعد الحياة". عَلَّمَتْهُم كيف يميّزون بين من يسرق طاقتهم ومن يرويها. قالت لهم ذات يوم:

"لا تخافوا من مشاعركم، حتى تلك المؤلمة منها. فالمشاعر مثل السحب، قد تحجب الشمس قليلًا، لكنها في النهاية تمطر خيرًا وتنقشع. اقرأوا مشاعركم كما تقرأون القصص، فيها العبرة وفيها الأمل."

رفعت طالبةٌ يدها الصغيرة، وعيناها تلمعان بسؤالٍ ظل يحيرها:

"وكيف نعرف أن الجرح بدأ يلتئم، يا معلمتي؟"

ابتسمت المعلمة ابتسامة هادئة، نابعة من صميم تجربتها، وأجابت:

"تعرفين ذلك... عندما تذكرين ما آلمكِ فلا تشعرين بلسعة الحزن، بل بقوة النجاة. كأنكِ تقرئين قصة مؤلمة مرة أخرى، لكنكِ هذه المرة تعرفين أن نهايتها ستكون جميلة. الألم يصبح جزءًا من حكايتك، لا سجنًا له."

ثم أضافت بصوتٍ مفعمٍ بالطمأنينة:

"الألم يترك وراءه كنزًا، وهو القدرة على فهم آلام الآخرين. هذا هو أعظم شفاء."

الأهم من ذلك، أنها تعلّمت فن البناء بعد الهدم. لم تَعُد تنتظر اعتذارًا من أحد، لأنها بنت لنفسها مساحة داخلية لا يحتاج الاعتذار أن يطرق بابها. أصبحت تملك ذلك التوازن الجميل بين الحنان والحزم. تعطي بحبٍّ ولكن بحدود، تثق بذكاء ولكن دون سذاجة، تفتح ذراعيها ولكن تحمي مساحتها.

وفي مفارقة جميلة، من قلب جراحها، انبثقت أجنحة جديدة؛ أجنحة من الشجاعة سمحت لها بأن تقول "لا" دون خوف، وأجنحة من الرحمة سمحت لها بأن تسامح دون أن تنسى الدرس. اكتشفت أن القوة الحقيقية ليست في بناء جدران عالية، بل في امتلاك القدرة على فتح الأبواب وإغلاقها بحكمة ووعي.

اليوم، تمشي المعلمة في الأزقة نفسها، لكنها تراها بعيون جديدة. هي ذاتها، لكنها نسخة أكثر اتساعًا ونضجًا. تعلمت أن الحياة لا تسير في خط مستقيم، بل في منحنيات تختبئ خلفها مفاجآت النمو، وأن أجمل التحولات لا تأتي من الراحة، بل من القدرة على تحويل العواصف إلى رياح تملأ أشرعتنا وتدفعنا نحو شواطئ لم نكن لنصل إليها لولا تلك الرياح بالذات.

وهكذا، لم تكن رحلتها عبورًا من الألم فحسب، بل غرسًا صامتًا لما سيبقى حيًا في نفوس من علَّمتهُم. بعض الجذور لا تُرى، لكنها وحدها تمنحنا الثبات حين تهب الرياح.

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الجذور التي ترويها الدموع!

  الجذور التي ترويها الدموع!   "رحلة معلّمة من الألم إلى الحكمة"   تأتي بعض الدروس من الكتب، وتأتي أخرى من التجارب. لكن أع...