الخميس، 30 يناير 2025

 

الأحلام... رسائل القلب التي لا تكذب!

 

الأحلام ليست مجرد مشاهد عابرة تتلاشى مع ضوء الصباح، بل رسائل خفية تُرسلها أرواحنا إلى وعينا، وتذكّرنا بأن ما نشعر به في أعماقنا لا يموت، بل يتجدد، ويتخذ شكل حلم ليمنحنا بصيصاً من السكينة، أو ليوقظ فينا رغبة دفينة في تحقيق ما تعذّر علينا بالأمس، فالأحلام ليست انفصالاً عن الواقع، بل امتدادٌ له، بلغة أكثر شفافية، حيث لا قيود تمنع المشاعر من الانسياب، ولا حواجز تكبح الأشواق، وكأن الروح في عالم الأحلام تجد فسحتها الأرحب، حيث تبوح بما يعجز عنه اللسان، وتنصت لصدى القلب حين يصمت الجميع.

 

الأحلام كنسائم رقيقة! تهب على أرواحنا، تلامس أوتار القلب برفق، فتستحضر لحظات نودّ لو عشناها واقعاً، أو نعيد رسمها بفرح على ملامح من نحب، وكأنها نافذة تطل على عالم آخر، تعكس مشاعرنا الأعمق، وتجسّد التجارب التي ربما لم تسنح لنا الفرصة! لنعيشها في يقظتنا، لكنها تزورنا حين تغفو أعيننا، وتأخذنا إلى عالمٍ خفيٍّ من الصور والمشاعر، حيث لا يخضع الوجدان لقوانين الواقع، فتلامس فينا نبض الحياة، وتهمس لنا بأن الأمل لا يزال حياً، مهما عبثت بنا الأقدار، وكأن الأحلام تمتلك قدرة سحرية على رتق ما مزقته الأيام، وعلى جمع شتات الحنين الذي تفرّق بين زوايا الذاكرة، فنجد فيها فرصةً ثانيةً لعناق من رحلوا، أو للبوح بكلمات لم تسعفنا اللحظات لنقولها، أو حتى لاستعادة مشاهد كان من المفترض أن تكون جزءاً من واقعنا، لكنها بقيت حبيسة الأماني.

 

وسط زحام الأيام وضجيج الحياة، قد نغفل عن جوهر العلاقات الإنسانية، فتأتينا الأحلام كرسائل مغلّفة بالضياء، وتذكّرنا بأن اللطف هو لغة القلوب، وأن كلمة طيبة، أو لمسة حنان قد تترك أثراً أبقى من الزمن نفسه، فكل حلم جميل نحمله في طيات أرواحنا، يذكّرنا بأن العطاء ليس بالضرورة مادّة ملموسة، بل يكفي أن نهدي من نحبّ مشاعر صادقة، أو أن نخبرهم بأننا رأيناهم في أحلامنا، لنجعل قلوبهم تزهر بفرح عامر!، فالأحلام ليست مجرد صور عابرة، بل هي بذور من الأمل، تُزهر حين نسقيها بالحب، وتمنحنا القدرة على الإحساس بأعمق ما فينا من إنسانية.

 

حين تتجلى الأحلام، نشعر بنداء داخلي يحثنا على الخير، ويدفعنا إلى أن نكون أكثر سخاءً في مشاعرنا، وأكثر حرصاً على إسعاد من حولنا، وكأنها مرآة صافية تعكس نقاء أرواحنا حين نتركها تتحدث بصدق، فهي ليست محض أوهامٍ أو خيالاتٍ عابرة، بل انعكاسٌ حقيقيٌ لما نحمله من قيمٍ ساميةٍ ومبادئ راسخة، ترسّخت فينا منذ الطفولة، بين تفاصيل الأماكن التي نشأنا فيها، وبين حكايات الأمهات، ونصائح الآباء التي استقرت عميقاً في وجداننا.

 

إن الحلم امتدادٌ للتربية التي شكّلت أرواحنا، ولبنةٌ من ماضٍ عاش فينا قبل أن نعيش فيه، فالأمكنة الأولى التي احتضنت خطواتنا، والكلمات التي سمعناها صغاراً، والمبادئ التي غُرست فينا بحب، تظل محفورةً في أعماقنا!، تترجمها أحلامنا كأنها انعكاسٌ صادقٌ لما اختزنته ذاكرتنا العاطفية!، إننا نحمل في أحلامنا أصوات الأهل، وصدى الحكايات التي نامت معنا، والحنين إلى أزمنة، وأشخاص تركوا أثراً في وجداننا، حتى إننا قد نجد أنفسنا في المنام نعود إلى أماكن لم تطأها أقدامنا منذ سنوات، أو نسمع همسات أشخاص غابوا لكن أرواحهم لا تزال تسكننا، فما نراه في المنام ليس سوى صدى لما حملته قلوبنا في يقظتنا، لأن "ما يكون في قلوبنا، يظهر في أحلامنا" كما قال كارل يونغ.

 

وحين تغمض أعيننا، لا يكون الحلم مجرد زائر عابر، بل رسالة خفية تمتد جذورها إلى أعماق وجداننا، توقظ فينا ذكريات دافئة، وتعيد إلينا ما حسبناه قد اندثر، ففي كل حلم، تنبض القيم الأصيلة التي نشأنا عليها، ويسري الدفء الذي غرسه الأحبة في أرواحنا، وكأن الأحلام تؤكد لنا أن من نقشوا أثرهم في قلوبنا لا يرحلون حقاً، بل يواصلون العيش فينا، مهما باعدت بيننا الأيام.

 

 

إن الرسالة الإنسانية التي تحملها الأحلام تتجاوز حدود الخيال، فهي تذكّرنا بأن كل شخص حولنا يستحق التقدير، وأننا جميعاً بحاجة إلى لمسة دفء في لحظات ضعفنا. قال جبران خليل جبران: "من لا يملك حباً، لن يعرف معنى الحلم".

 

الأحلام ليست ظلالاً عابرة تذوب مع اليقظة، بل هي توقيع الروح على دفتر الحياة، ودعوة غير منطوقة لنكون أكثر رحمة، وأكثر قرباً من قلوب الآخرين، وأكثر وعياً بأن سعادتنا لا تكتمل! إلا حين نكون سبباً في سعادة من نحب.

 

حين نحلم، فإننا نغترف من نبع الذاكرة، نستعيد المواقف التي شكّلتنا، والأشخاص الذين منحونا معنىً للحياة، ونتذكر أن العاطفة هي ما يربطنا ببعضنا البعض في عالمٍ يسير سريعاً نحو الاغتراب، فالأحلام تؤكد لنا أن الإنسان ليس كائناً منفصلاً عن الآخرين، بل هو جزء من نسيج يمتد ويتشابك، يتأثر ويؤثر، يعطي ويأخذ، وحين يعي هذه الحقيقة، يدرك أن السعادة الحقيقية لا تكمن في امتلاك الأشياء، بل في منحها، تماماً كما قال ألبرت شفايتزر: "أجمل ما في الحياة أن تجعل شخصاً ما يبتسم."

 

إن الأحلام تدعونا إلى أن نكون أكثر انتباهاً لعلاقاتنا، وأن نمنحها من وقتنا ورعايتنا، وأن نزرعها باللطف ونرويها بالاهتمام، لأنها وحدها القادرة على أن تجعل الحياة أكثر احتمالاً، ففي لحظة صدق بيننا وبين أنفسنا، ندرك أن الأحلام ليست مجرد ظلالٍ ليلية، بل رسائلٌ تنبع من أعماق أرواحنا، وتدفعنا لأن نكون أكثر إنسانية، لأن الحب في النهاية هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع، والحلم هو صوته الهامس، الذي يذكّرنا دوماً بأن العطاء هو أثمن ما نملك، وأننا، حين نمنح السعادة، نمتلكها حقاً.

 

جهاد غريب

يناير 2024

 

الأمل: شمس لا تغيب وقوة تصنع المعجزات!

 

في زحمة الأيام، حين تضيق بنا السبل وتشتد المحن، يبقى الأمل هو النور الخافت الذي يلمع في الأفق، كنجمة وحيدة ترفض أن تنطفئ في سماء مظلمة، هو اللحن الخالد الذي تعزفه أرواحنا حين تتقاذفها العواصف، وهو الشجرة التي تتجذر في أعماقنا رغم قسوة الجفاف، وقد يبدو الأمل أحيانًا كحلم بعيد، كسراب في صحراء قاحلة، لكنه في الحقيقة أقرب إلينا مما نتصور، ينبض في صدورنا، ويمنحنا القوة للمضي قدمًا مهما كانت العثرات.

 

يقول محمود درويش: "ونحن نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا"، وهذا السبيل ما هو إلا الأمل الذي يجعلنا نتمسك بالحياة رغم كل ما قد يواجهنا من آلام وخيبات، فحتى في أشد اللحظات قتامة، هناك شعاع خافت ينبعث من أعماق أرواحنا، يخبرنا أن الغد قد يحمل لنا ما لم نحلم به يومًا، وأن شتاء العمر مهما طال، فإن الربيع آتٍ لا محالة.

 

يحمل التاريخ بين طياته قصصًا عظيمة عن أناس تشبثوا بالأمل رغم كل الصعاب، فكان لهم النصر والنجاح. نيلسون مانديلا، الذي قضى عقودًا في السجن، لم يفقد الأمل يومًا في أن يرى بلاده تنعم بالحرية، وكان يقول: "قد يكون هناك أيام لا نستطيع فيها التنبؤ بالمستقبل، ولكن نستطيع دائمًا خلق المستقبل".

أما هيلين كيلر، التي حُرمت من البصر والسمع، فقد رأت في الأمل شعاعًا يقودها للحياة، قائلة: "الأمل هو تلك الشعلة الصغيرة التي تطرد الظلام من حياتنا".

 

الأمل ليس مجرد شعور عابر، بل هو القوة التي تحرك عجلة الحياة، وهو الحافز الذي يجعلنا ننهض بعد كل سقوط، ونواصل المسير حتى عندما يبدو الطريق وعرًا وشاقًا، ففي كل مجالات الحياة، لا يمكن تحقيق النجاح دون هذا الوقود السحري.

في العمل، يظل الأمل هو الدافع الذي يجعل الموظف يبذل جهده، والمبدع يستمر في ابتكاراته رغم الإخفاقات، وإن من يحمل الأمل في قلبه لا يرضى إلا بالقمم، ولا يستكين لليأس مهما كانت العثرات.

 

وفي العلاقات الإنسانية، لا يمكن لأي حب أو صداقة أن تستمر دون الأمل، هو الذي يجعلنا نغفر الزلات، ونتجاوز الخلافات، ونؤمن بأن الغد يحمل لنا فرصًا جديدة للصلح والمودة، فكم من علاقة كانت على حافة الانهيار، لكن كلمة طيبة مليئة بالأمل أعادت بناءها من جديد! يقول جبران خليل جبران: "لا تجعلوا من اليأس نهاية، فاليأس طريقٌ مظلم، والأمل ضوءٌ يسكن في قلوبنا".

 

أما في مواجهة المرض، فالأمل ليس مجرد ترف، بل هو دواء لا تراه العيون، لكنه يسري في العروق، ويمنح الجسد القوة لمقاومة الألم!، كم من مريض قيل له إن الأمل مفقود، لكنه رفض أن يستسلم، فكان تفاؤله سبيلًا للشفاء! فكما تقول الحكمة: "تفاؤلوا بالخير تجدوه"، فإن إيمان الإنسان بإمكانية التعافي قد يكون في حد ذاته جزءًا من العلاج.

ولكن ماذا عن أولئك الذين فقدوا الأمل؟ كيف يمكنهم استعادته؟ لا أحد محصن ضد لحظات اليأس، فالحياة قد تكون قاسية أحيانًا، لكنها لا تسلبنا كل شيء، حتى عندما تبدو السماء ملبدة بالغيوم، يكفي أن نرفع رؤوسنا لنرى أن خلف الغيوم هناك شمس لا تزال تشرق.

في مثل ياباني يُقال: "إذا وقعتَ سبع مرات، فانهض ثمانية"، وهذا هو جوهر الأمل؛ أن ننهض بعد كل سقوط، وأن نبحث عن النور حتى في أحلك الدروب.

 

الأمل ليس مجرد شعور داخلي، بل هو قوة يجب أن نغذيها ونرعاها، ويمكننا أن ننميه من خلال الامتنان لكل النعم التي تحيط بنا، فكل لحظة نقضيها مع أحبائنا، وكل ابتسامة نرسمها على وجه أحدهم، هي سبب كافٍ لنتمسك بالحياة، كما أن البحث عن الدعم الاجتماعي والنفسي يساعد في إعادة بناء الأمل عندما يتلاشى. يقال في المثل الشعبي: "من جاور السعيد يسعد"، فإن مرافقة الإيجابيين تعزز من قدرتنا على التفاؤل.

 

الشباب، بروحهم المتوقدة وعزيمتهم الصلبة، هم من يستطيعون نشر الأمل في المجتمع، وهم الذين يحملون شعلة التغيير، ويبثون الحماس في النفوس، ويجعلوننا نؤمن بأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل.

قال الشاعر أحمد شوقي: "وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا"، فإن الأمل يجب أن يقترن بالعمل، وإلا ظل مجرد حلم عابر.

 

إن الأمل لا يعني أن ننتظر الفرج دون سعي، بل هو القوة التي تدفعنا لنصنع التغيير بأيدينا، وأن ننهض من بين الركام، ونرسم في الأفق لوحة جديدة بألوان الفرح والطموح، فالأمل ليس تجاهلًا للواقع، لكنه رؤية مختلفة له، إنه اليقين بأن الأيام القادمة تخبئ لنا ما لم نتوقعه، وأن الفجر سيأتي حتمًا بعد الليل، مهما طال ظلامه.

 

فلنحمل الأمل في قلوبنا كما تحمل الأشجار براعمها في الشتاء، واثقة أن الربيع سيأتي مهما تأخر، ولنؤمن بأننا قادرون على تجاوز الألم، وأن لنا في الحياة نصيبًا من الفرح، حتى وإن تأخر موعده. يقول المثل الإسباني: "بعد العاصفة يأتي الهدوء"، فلنتشبث بهذا الرجاء، ولنمضِ في دروب الحياة بخطى ثابتة، متسلحين بالأمل، فهو وحده القادر على تحويل أحلامنا إلى حقيقة.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

 

عزف القلب بين الحنين والألم!

 

القلب كائن حيّ لا يهرم ولا يشيخ، يعزف ألحانه في كل الفصول، لكنه حين يختار لحن الحنين، يبعث في الروح رعشة لا تهدأ، فتستجيب لها الأوجاع راقصة على مواضع الألم الحائر، كأنها ترفض المغادرة، وكأن الشاعر محمود درويش كان يصف ذلك حين قال: "أنا لغتي، وأنا ما قالت الكلماتُ حين انكسرتُ"، فالحنين ليس مجرد شعور عابر، بل حالة وجدانية تجتاح الكيان، تفتح نوافذ الذكرى، وتعيد ترتيب التفاصيل التي حسبناها في طيّ النسيان.

 

الشتاء، حين يأتي، يضيف لهذا العزف بعداً آخر!، فالبرد لا يقتصر على الأجساد، بل يتسلل إلى أعمق زوايا الروح، يحفر في أوتار الأنين، ويكشف عن المشاعر في أصدق صورها، تماماً كما قال نيتشه: "من لم يحمل في قلبه فوضى، لن يستطيع أن يبدع نجمة ترقص"، ففي البرد، تتجلى الفوضى الداخلية، تلك التي تُعيد الإنسان إلى ذاته، وإلى جدران ذاكرته التي تنبض بالقصص والمواقف والوجوه التي غابت ولم تغب، فتنعكس المشاعر كما لو أنها لوحة زيتية رسمتها اليد الخفية للزمن.

 

الإنسان لا يحنّ إلى الأماكن بحد ذاتها، بل إلى اللحظات التي عاشها هناك، وإلى الأصوات، وإلى الضحكات التي ترددت في الفراغ، وإلى الدفء الذي لم يكن يدرك قيمته إلا بعد أن افتقده. قال غسان كنفاني: "الغريب الحقيقي هو الذي يجد نفسه في كل مكان، لكنه لا يجد نفسه في أي مكان"، هذا هو الحنين؛ أن تكون حاضراً في الواقع، لكن قلبك يظل عالقاً في محطة بعيدة، ينظر من نافذة القطار إلى ماضٍ لم يرحل تماماً.

 

الحياة تُجبرنا على الاستمرار، لكنها لا تُلزم القلب بأن ينسى!، فهناك أغانٍ قديمة، ورسائل لم تُرسل، وأبواب تركناها مفتوحة على أمل عودة لن تأتي، ومع ذلك، يستمر الإنسان في السير، ويضع يده على قلبه كلما داهمه الحنين، ثم يتنفس بعمق، ويمضي، لأنه كما قال نزار قباني: "نحن لا نُشفى من ذاكرتنا".

 

ربما لا يمكن الهروب من الحنين، لكنه يمكن أن يكون مصدراً للقوة، لا للضعف! لذا علينا أن نتقبله كما هو، وأن نسمح له بأن يلون لوحات مشاعرنا، دون أن يُحكم قبضته على حاضرنا، فالماضي جزء منّا، لكنه ليس كلّنا، والموسيقى التي يعزفها القلب، وإن حملت أنغام الحنين، تظل قادرة على خلق ألحان جديدة، تتراقص عليها الحياة من جديد.

 

أخيراً، القلب يعزف دائماً لحن الحنين، فتتراقص الأوجاع على مواضع الألم الحائر في كل المواسم.

والبرد يأتي، ويجتاح أوتار الأنين، فتنعكس المشاعر في أصدق لوحة، معلقة على جدران كل المراسم.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

 

بين التناقض والوهم: كشف أقنعة الشخصيات المزدوجة وأسرارها!

 

إن التناقض والوهم هما مصطلحان يتداخلان في ذهن الإنسان، ويتشابكان في خيوط الحياة اليومية ليؤثرا على أفعاله وكلماته، وكلاهما يطاردان العقول، ويصنعان حالة من الضبابية في التفكير والتوجيه، بل أحياناً يخلقان وهماً واقعياً يظن الفرد فيه أنه قد وصل إلى يقين ثابت، بينما هو في الحقيقة ضائع في متاهة من التناقضات التي تزيّن له نفسه.

 

التناقض في الطرح، يأتي غالباً ليكشف جوانب مخفية في الذات البشرية، تلك الجوانب التي تخشى التعرّي أمام الحقيقة، فتختبئ وراء الكلمات المعسولة والمبادئ الزائفة، محاولاً بناء صورة ذهنية عن صاحبها في ذهن الآخر تختلف تماماً عن جوهره.

يقول أرسطو: "القول السهل في الظروف الصعبة هو أعظم دليل على الفهم الزائف".

 

من أمثلة التناقض في القيم والمبادئ!، شخص ينادي بالبساطة والتواضع، لكنه يسعى وراء المظاهر والتفاخر أمام الآخرين، أو شخص يتحدث عن أهمية الثقة بالنفس، لكنه يبحث دائماً عن تأكيد الآخرين لقراراته قبل الإقدام على أي خطوة. يقول نيلسون مانديلا: "ليس المهم ما يقوله الناس، ولكن المهم ما يفعلونه".

 

إن التناقض في المشاعر والدوافع، يكشف أيضاً عن خلل عميق في فهم الذات والآخرين!، تجد الشخص الذي يتحدث عن قيم نبيلة وثوابت راسخة، لكن أفعاله تختلف كلياً عنما ينطق به لسانه!، هذا الشخص، الذي يحمل على كاهله شعار الفضيلة في العلن، يترك وراءه خيوطاً من التناقضات تفضحه في الخفاء! والواقع أن التناقض ليس مجرد تعبير عن تنافر الأفكار، بل هو أيضاً انقسام داخلي بين ما يريد الإنسان أن يظهره وما هو عليه في أعماقه.

يقول إيمانويل كانط: "أحياناً، نجد أنفسنا نعيش في تناقضات لا نجد لها تفسيراً سوى أن القلوب أحياناً تتبع العواطف أكثر من العقل".

 

من بعض الأمثلة من حياتنا اليومية لنرى كيف يتجلى هذا التناقض في تصرفات الناس: شخص يظهر التعاطف مع الآخرين، لكنه في المواقف الفعلية لا يتصرف بطريقة تدعم هذا التعاطف، أو شخص يعبر عن الحب والاهتمام بشريكه العاطفي، لكنه يتجاهل مشاعره الحقيقية ولا يقدم أي دعم حقيقي عند الحاجة.

في الحقيقة، قد يلبس الآخرون ثوب الوهم، ظناً منهم أنهم يتعاملون مع شخص يمتلك مبادئ ثابتة لا يتزعزع، بينما هم في حقيقة الأمر يتعاملون مع شخص يسوق لهم أفكاراً يقتنع هو نفسه بأنها غير حقيقية. يقول كارل يونغ: "الإنسان الذي يخفي ما بداخله يعيش في وهم مستمر".

 

كيف يمكن للمرء أن يكشف هذا التناقض؟ لا يكفي فقط أن نستمع للكلمات، بل يجب أن نُفَكِّر فيما وراء الكلمات، ونتأمل الأفعال والمواقف، فعندما يتحدث الإنسان عن القيم والمبادئ، علينا أن نُمعن النظر في أفعاله وحركاته الجسدية، فالعين هي مرآة الروح، وحركات الجسد قد تكون أكثر تعبيراً عن حقيقة ما يدور في داخل الشخص من الكلمات نفسها.

 

التناقض الذي يظهر في تصرفات الإنسان يفضح نفسه عندما تتناقض أفعاله مع قوله، ويظهر جلياً حينما تكون نية الشخص مختلفة عما يظهره من مشاعر وأحاسيس.

 

كم مرة قابلت شخصاً يروج لفكرة معينة، لكنه في الواقع يتصرف بعكسها تماماً؟ من بعض المواقف التي قد تكون مرّت علينا جميعاً: بالنسبة للتناقض في العلاقات الاجتماعية، شخص يتحدث دائماً عن أهمية الصداقة والوفاء، لكنه في الواقع يتجنب مساعدة أصدقائه عند الحاجة، بل وربما يختفي في الأوقات الصعبة!، أو شخص يدعي التسامح، لكنه في الواقع يحمل ضغينة ولا ينسى الإساءات، أما التناقض في بيئة العمل مدير يشدد على أهمية الالتزام بالمواعيد، لكنه نفسه يتأخر في تسليم المهام أو الاجتماعات، أو موظف يشتكي من ضغط العمل ويطالب بالراحة، لكنه في الوقت نفسه يضيع وقت العمل في أمور غير منتجة.

 

الفكرة هنا هي أن الشخص المتناقض يبذل جهداً لبناء صورة غير حقيقية عن ذاته أمام الآخرين، بينما في الواقع هو لا يملك التماسك بين داخله وخارجه. يقول فريدريك نيتشه: "العقل هو الذي يرى الحقيقة؛ والقلب هو الذي يحس بها".

 

من أجل كشف الإنسان المتناقض، يجب أن نطور قدرتنا على الاستماع الجيد، وأن نتحلى بالصبر في تحليل كل كلمة وكل إشارة، فالاستماع الجيد ليس مجرد استقبال للكلام، بل هو عملية تحليل دقيقة، تفتح لنا أبواب الفهم الحقيقي للأفكار والمواقف، لذا علينا أن نراقب بعناية حركات جسد المتحدث، لأن لغة الجسد تكشف عن الكثير مما يختبئ وراء الكلمات، فالحركات التكرارية، مثل تحريك اليدين، قد تكون دلالة على توتر داخلي، أو عدم الراحة مع ما يقوله الشخص، وبالتالي تفضح التناقض الذي يحاول إخفاءه.

 

لكن كيف يمكننا تمييز هذه التناقضات عندما لا تكون الكلمات كافية للكشف عنها؟ في كثير من الأحيان، لا يعبر الشخص عن حقيقة مشاعره بالكلمات فقط، بل تظهر هذه المشاعر في لغة جسده، وفي نبرة صوته، وفي تعبيرات وجهه التي قد تفضحه أكثر مما يظن.

 

لغة الجسد تكشف عن التناقض، مثل: تجنب النظر المباشر عند الحديث عن أمر يدّعي اقتناعه به، والتململ، أو الحركات التكرارية التي تعكس توتراً داخلياً، وتفاوت نبرة الصوت بين الحماس المصطنع والحقيقة الداخلية.

 

من باب النصيحة، يجب أن ندرك أن التناقض ليس سوى سجن داخلي يُقيّد صاحبه في دوامة من التوتر وعدم الاستقرار، ومن المهم أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، وألا نسمح للتناقض أن يفسد حياتنا أو يضلل من حولنا. يقول سقراط: "كل شخص يرغب في أن يكون صادقاً مع الآخرين، ولكن الأهم أن يكون صادقاً مع نفسه أولا".

 

أما النصيحة لمن يتعامل مع المتناقض، هي أن يكون حذراً، وأن يتعلم كيف يميز بين الحقيقة والوهم، فعلى الرغم من أن الإنسان المتناقض قد يظهر للآخرين بصورة معينة، إلا أن التعمق في التعامل معه، وتحليل تصرفاته بعناية يمكن أن يساعد في كشف أبعاده الحقيقية. يقول ماري كوري: "عندما تعرف نفسك جيداً، تصبح قادراً على التعامل مع التناقضات الخارجية".

 

يجب أن يتذكر المرء دائماً أن الصدق مع النفس هو الطريق الوحيد للسلام الداخلي، وأن المتناقض يعيش في حالة من الفوضى الذاتية التي قد تؤدي به إلى عزلة غير روحانية! عزلة اجتماعية وعاطفية.

 

في الختام، إن التناقض ليس سوى انعكاس للحيرة والضياع الداخلي، والوهم ليس إلا حجاباً يخفى وراءه شخصيات غير حقيقية! لنتعلم أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، ومن ثم نكون قادرين على التفاعل مع الآخرين بصدق ووعي، بعيداً عن كل تلك الأقنعة التي لا تصنع إلا وهماً زائفاً.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

 

العلم والمعرفة... بين نور العقل وحكمة التجربة!

 

العلم هو النور الذي يبدد ظلام الجهل، لكنه وحده ليس كافياً؛ لتشييد صروح الحكمة!، حيث تبرز هنا أهمية المعرفة، التي تُكتسب عبر تراكم التجارب، وعبر الاحتكاك بالحياة وتفاعلاتها، وعبر الدهشة الأولى لطفل يتعلم السير، وعبر حكايات الأجداد التي تُروى على ضوء القناديل.

 

منذ الأزل، كان الإنسان يخط طريقه بين نهرين: نهر العلم المتدفق بقوة الحقائق والنظريات، ونهر المعرفة الذي تتشكل مياهه من مشاعر الإنسان وتجربته، وهناك فرق جوهري بينهما، فالعلم يُدرّس في القاعات، أما المعرفة فتنمو في الأزقة والميادين، وفي الحوارات العميقة بين الأجيال، وفي جلسات السمر التي يروي فيها الأب لابنه كيف يتعامل مع الناس؟ وكيف يُحسن التصرف في المواقف؟ وكيف يزن الكلمة قبل أن ينطق بها؟ قال الجاحظ: "المعرفة حياة القلوب، ونور الأبصار، ورياض العقول".

 

العلم والمعرفة هما جناحا الإنسان في رحلته نحو فهم الكون، وما يحيط به، فالعلم يمثل تلك الحقائق المكتسبة من خلال المؤسسات التعليمية الرسمية، وعبر المناهج والكتب والمحاضرات، وعبر المدارس والجامعات والمختبرات، حيث يتعلم الفرد النظريات والقوانين العلمية، ويرصد الظواهر الطبيعية عبر أدوات دقيقة وتجارب موثوقة، ومن خلال العلم، يستطيع الإنسان أن يضع يده على مفاتيح الكون، يفك رموزه ويُسبر أغواره، لكن، بينما يظل العلم أساسياً في حياتنا الأكاديمية، لا يمكن إغفال أن المعرفة المكتسبة من الأسرة والمجتمع تشكل الجوهر الثقافي وسلوكنا الاجتماعي.

 

العلم يعلمنا كيف نصنع سفينة، لكن المعرفة تخبرنا كيف نبحر بأمان وسط العواصف، هكذا، نرى أن العلم يمنحنا الأدوات الأساسية، بينما تقدم المعرفة التوجيه العملي في حياتنا، والعلم يزودنا بمبادئ الهندسة، لكن المعرفة هي التي ترشدنا إلى جماليات العمارة وأسرار التناسق، والعلم قد يعلمنا كيف نكسب المال، لكن المعرفة تعلّمنا كيف نحترم القيم والمبادئ في طريقنا إلى المال، وشتان بين من يملك العلم دون وعي، وبين من يملك المعرفة دون شهادة، فالأول قد يكون أسير الحروف، والثاني قد يكون سيد الفهم.

 

المعرفة أعمق وأكثر تجذراً في حياة الإنسان، إنها تلك الخبرات المتراكمة التي يكتسبها الفرد عبر الزمن، من خلال تفاعله مع الحياة والناس، واختباره لمختلف المواقف، والمعرفة مرتبطة بالخبرة، وتزداد عمقاً مع تقدم الإنسان في العمر، فكلما عاش الإنسان أكثر، زادت تجاربه، وأصبح أكثر حكمة وقدرة على التعامل مع مختلف الأمور.

 

العلم شعلة تنير الدروب، والمعرفة جذور تمتد في عمق الزمن، وبينهما يولد الوعي الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فليس كل متعلم عالِم، وليس كل صاحب شهادة حكيماً، إذ إن للمعرفة سحراً لا تمنحه الكتب، وللعلم أجنحة لا تطير دون تجربة،

إذاً، بينما يوفر العلم الأساسيات، تمنحنا الحكمة من خلال التجارب القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ في حياتنا اليومية.

 

العادات والتقاليد، والقيم والأصول، كلها أجزاء من المعرفة التي لا يمكن اكتسابها في صفوف المدارس، بل تُغرس في الفرد من خلال الأسرة والمجتمع، فالعادات والتقاليد تختلف من مجتمع إلى آخر، وهي تمثل الجوهر الثقافي للأمة، ومهما بلغ الإنسان من درجات العلم، يظل بحاجة إلى حكمة ومعرفة من سبقوه، سواء كانوا من أفراد أسرته، أو من كبار السن في مجتمعه، فالوالدان، على سبيل المثال، هما مصدر مهم للمعرفة في كيفية التعامل مع العائلة الممتدة، والعلاقات الاجتماعية المختلفة، وبينما يعزز العلم فهمنا النظري، تأتي المعرفة لتغني حياتنا اليومية، فهي ما نكتسبه من خلال التفاعل مع أفراد مجتمعنا.

 

لا يمكن فصل المعرفة عن الحياة، فهي التي تهمس في آذاننا بكلمات الحكمة حين نُقبل على الزواج، وحين نجلس في مجلس العائلة، وحين نشارك في المناسبات الاجتماعية، وحين نختار كلماتنا بعناية في العزاء، وحين نفرح بلباقة في الأعراس، وهذه الجوانب لا تُدرّس في الكتب، بل تُستقى من القلب إلى القلب، ومن الكبير إلى الصغير، ومن التجربة إلى الواقع.

 

العلم والمعرفة يكملان بعضهما البعض، فبينما يمنح العلم الإنسان الأدوات لفهم العالم بشكل دقيق وممنهج، تمنحه المعرفة القدرة على التعامل مع هذا العالم بحكمة وفطنة. قال الفيلسوف الفرنسي مونتين: "العقل المثقف بدون قلب حكيم يشبه سيفاً في يد أحمق".

 

مهما بلغت بنا الشهادات، ومهما علا صرح العلم الذي بنيناه، فإننا نظل في حاجة إلى المعرفة التي لا تورَّث بالكتب، بل تُنقل بالروح، وبالتفاعل، وبالحكايات العابرة التي تحمل في طياتها دروساً لا تقدر بثمن، فكما يحتاج الجسد إلى جناحين كي يحلق، يحتاج الإنسان إلى العلم ليكتسب المعلومات، وإلى المعرفة ليحسن استخدامها.

 

يقول الفيلسوف سقراط: "الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش". فالعلم يمكن أن يمنح الإنسان القوة والمعرفة، لكنه لن يُنير له درب الحكمة إن لم يكن مترافقاً مع التجربة والمعرفة العميقة.

 

التوازن بين العلم والمعرفة هو ما يمنح الإنسان القدرة على بناء حياة متكاملة، ويستطيع من خلالها ليس فقط أن يفهم العالم، بل أن يتفاعل معه بذكاء وحكمة، فالعلم يمنح الإنسان القدرة على التقدم والتطور، بينما تمنحه المعرفة القدرة على العيش بحكمة وتوازن.

 

يُعتبر العلم والمعرفة وجهين لعملة واحدة، لا يمكن الاستغناء عن أي منهما، فالسعي الدائم لاكتساب العلم والمعرفة هو ما يجعل الإنسان ينمو ويتطور، ويصبح قادراً على مواجهة تحديات الحياة بذكاء ورُشد.

 

وهكذا، لا يكفي أن نطلب العلم وحده، بل علينا أن نبحث عن جوهره، وعن الحكمة التي تكمن بين السطور، وعن الدروس التي لا تُكتب وإنما تُحس، فالعلم يسكن العقول، لكن المعرفة تسكن الأرواح، والعقل وحده قد يضل الطريق إن لم يكن معه بوصلة الحكمة.

 

قال سقراط يوماً: "أنا أعرف شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً". تلك المقولة، رغم تناقضها الظاهري، تلخص جوهر الفارق بين العلوم والمعرفة العميقة، فكلما تعمق الإنسان في الحياة أدرك أن فهمه للعالم لا يزال ناقصاً، وأنه دائم الحاجة إلى خبرات الآخرين.

 

أخيراً، يجدر بالإنسان أن يدرك أن العلم والمعرفة هما مفتاحا سعادته وازدهاره، يفتحان أمامه أبواب الحكمة والقدرة على العيش بسلام وتوازن.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

الثلاثاء، 28 يناير 2025

 

قوة التسامح: تحررنا من قيود العبودية النفسية.. عبر طريق العفو وسلام الإنسانية!

 

الظلم جرح عميق يُثقل النفس!، ويترك فيها ندوباً لا تندمل بسهولة، لكن الانتقام ليس دواءً لهذا الجرح، بل هو سُمٌّ يسري في الروح!، يزيد من مرارتها، ويغلق أبواب الصفح والمصالحة!

من ذاق مرارة الظلم يدرك أن حمل الألم لا يبرر رده بألم مماثل، فالانتقام، وإن بدا لحظة انتصار، يحمل في طياته خسارة أكبر، فهو دليل ضعفٍ في الحكمة، ونقصٍ في التجربة، وغيابٍ لنقاء النفس.

 

حتى لو كان الظلم جرح عميق، فالانتقام ليس شفاءً له، فحينما نُظلم، نحتاج إلى شجاعة تتجاوز شجاعة الرد بالمثل! شجاعة التسامي فوق الألم، والنظر إلى الأفق الواسع، حيث يتحقق العدل بعيداً عن أيدينا، إما بقوة الزمن أو بعدالة الخالق، فالظلم يترك أثره في النفس، وقد يدفعنا إلى قسوة غير مقصودة على من حولنا، لكن مواجهة هذا الألم بنقاء الروح هو ما يصنع الفرق. قيل في الأثر "من عفا عن ظالمه زاده الله عزّاً".

 

الانتقام يضاعف الخسائر، ولا يُصلح خطأً، ومن يسعى إلى العدل لا يسير في طريقٍ مُوحشٍ كهذا، لأن الصلح بابٌ مفتوح، والانتقام يوصده بإحكام، وإن أردنا مجتمعاً سليماً، علينا أن نُربي أرواحنا على السمو فوق جراحنا، وأن ندرك أن من يُقاوم الظلم! يُقاوم أيضاً الرغبة في أن يُصبح ظالماً، ولو باسم الانتقام. قال الله تعالى في كتابه الكريم: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ". إذاً، السمو فوق الألم هو ما يخلق بيئة سليمة، فمن يرفض الظلم بحق، يرفض أن يتحول ظالماً تحت أي مسمى.

 

الانتقام يترك أثراً نفسياً واجتماعياً ينعكس على الجميع، فاللجوء إلى الانتقام يعكس ضعف النفس، أما التسامي فوق الجراح فهو شجاعة، والعدل يتحقق بالصبر وعدالة الخالق، لا بردّ الظلم بظلم.

ولنعتبر من قوله تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".

 

إن الانتقام، هذا السُمٌّ الذي يتسرب إلى أعماق النفس، هو ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو سلوك معقد يتأثر بعوامل نفسية واجتماعية عميقة!، فالإنسان الذي يتعرض للظلم يشعر بالإحباط والغضب، وقد يدفعه ذلك إلى الرغبة في الانتقام!، ربما، ليشعر بالقوة أو لاستعادة توازنه النفسي، لكن هذا الشعور بالانتصار زائف، فهو لا يداوي الجرح، بل يعمقه، ويؤدي إلى خلق دائرة من العنف لا تنتهي.

 

الانتقام كالدودة التي تنخر في الجسد والروح، ولا يتوقف عند الألم الأولي، بل يُكرر معاناة الذات، مُعمِّقاً جراحها النفسية وجاعلاً من الألم ذكرى دائمة، وهذا يُعطِّل عملية الشفاء، ويُبقي على المشاعر السلبية من مرارة وحقد مُتصاعدَين، مُشوِّهاً صورة الذات حتى ترى نفسها ضحية مظلومة!، ما يؤثر على الثقة بالنفس، ويُبرر العنف كرد فعل طبيعي على الظلم المُتعرض له، مُعززاً السلوكيات العدوانية.

 

إن المنغمس في الانتقام يجد نفسه محاصراً بالعزلة الاجتماعية!، وعاجزاً عن بناء علاقات صحية، إذ يولد الانتقام مشاعر العداء والكراهية، مما يُنفّر الآخرين، ويُبقي صاحبه وحيداً، وهذه المشاعر السلبية قد تتسبب في ظهور اضطرابات نفسية كالقلق والاكتئاب، مما يُؤثر سلباً على جودة الحياة اليومية.

 

من خلال كل ما سبق، يتضح أن الانتقام يُولِّد العنف، حيث يتحول الضحية إلى جلاد، ويُصبح الجلاد الجديد ضحية، مُوَّسعاً دائرة العنف!، ومُنتشراً في المجتمع، وهذا العنف يُدمِّر الثقة بين الناس، ما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتقويض العلاقات، فيُصبح الحفاظ على الأمن والاستقرار أمراً صعباً في مجتمع تُسيطر عليه مشاعر الخوف وعدم الأمان، كما يتم نقل هذه المشاعر السلبية للأجيال القادمة، حيث يُقلِّد الأطفال عنف آبائهم، مُستمرين في دائرة العنف!، ويمكن تشبيه الانتقام بجرح عميق في الجسم، إذا لم يُعالج بالعفو والصفح، فإنه يتلوث وينتشر في النفس والمجتمع، مُؤدياً إلى تدمير كبير.

لهذا، يجب علينا جميعاً أن نكسر هذه الدائرة المفرغة من العنف والانتقام، ونسعى لبناء مجتمع يقوم على التسامح والتفاهم، فالانتقام لا يحل المشاكل، بل يُعقِّدها، والعفو هو السلاح الأقوى، لمواجهة الظلم وبناء مستقبل أفضل.

 

في مجتمعاتنا، يُتوقّع من الأفراد ردّ الأذى بأذى، باعتباره نوعاً من الدفاع عن الكرامة، وهذه التوقعات قد تدفع الأفراد، لاتخاذ قرارات انتقامية تتعارض مع قناعاتهم الشخصية، بينما تتباين الثقافات في نظرتها إلى الانتقام! لكن أغلبها يُعلي من قيمة العفو والصفح، وبالرغم من ذلك، تلعب بعض وسائل الإعلام -للأسف- دوراً محورياً في تشكيل هذه القيم، حيث تُقدّم صوراً نمطية للانتقام! كعمل بطولي يجذب بعض الأفراد لمحاكاته.

 

وهنا، مع الأسف، يرى بعض الأفراد في الانتقام وسيلة لإعادة التوازن إلى حياتهم، حيث يشعرون أنهم قد تعرضوا للظلم، ويحتاجون لاستعادة كرامتهم وقوتهم، وقد يدفع الخوف من الضعف بعض الأفراد إلى الانتقام!، لإثبات مكانتهم الاجتماعية!، وقد يكون الانتقام وسيلة لجذب انتباه الآخرين، حيث يعتقد البعض أنه سيجعلهم محور اهتمام الجميع.

 

كثيراً ما يُعتَبَر الانتقام عند ضعاف الشخصية، وسيلة للدفاع عن النفس، وحمايتها من أي أذى مستقبلي، وقد يدفع شعورهم بعدم الأمان إلى الانتقام بغرض حماية أنفسهم! من تكرار التجربة المؤلمة، لذا تشبه الدوافع الاجتماعية للانتقام أمواجاً تجرف الأفراد نحو اتخاذ قرارات غير عقلانية.

ومن خلال تلك المنطلقات يجب علينا جميعاً أن نعمل على تغيير هذه الدوافع الاجتماعية السلبية، وبناء مجتمع يقوم على الاحترام المتبادل والتسامح، لذا، يجب أن ندرك أن العفو هو السبيل الصحيح لتحقيق السلام والوئام.

 

قد تلعب التنشئة الاجتماعية دوراً كبيراً في تشكيل هذه النظرات، حيث تؤثر الأفكار والقيم التي يتلقاها الفرد منذ صغره على سلوكه، وتفاعلاته مع الآخرين، وربما ترتبط العديد من العادات والتقاليد ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الانتقام، فبينما تشجع -للأسف- بعض العادات على الانتقام، لكن تسعى أخرى إلى تهدئة النفوس وتحقيق السلم.

 

تدعو معظم الأديان إلى التسامح والعفو، وتعتبر هذه القيم من أهم مبادئها، فالأديان توفر إطاراً أخلاقياً يساعد الأفراد على فهم معنى الحياة والتعامل مع الصعاب، كما تؤمن الأديان بوجود عدالة إلهية، حيث يعتبر أن الله هو الذي سيحاسب الظالمين، مما يقلل من الحاجة إلى الانتقام البشري.

 

لا يتعارض مفهوم العدالة الإلهية مع دور القانون والمؤسسات في تحقيق العدالة، حيث يعمل القانون على الحد من الانتقام من خلال وضع قيود على العنف، وتوفير آليات للعدالة، وتلعب المؤسسات المختلفة، مثل القضاء والشرطة، دوراً حاسماً في تحقيق العدالة، وحماية حقوق الأفراد، علاوة على ذلك، يسهم المجتمع في خلق بيئة آمنة تحترم حقوق جميع أفراده، ويتوجب على الحكومات توفير هذه البيئة من خلال تطبيق القانون، وحماية حقوق الإنسان.

 

يمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً هاماً في نشر قيم التسامح والتعايش السلمي، إذ يشبه المجتمع السلمي بحديقة مزهرة، حيث تتعايش الأزهار بسلام، بينما يشبه المجتمع الذي ينتشر فيه العنف والانتقام بحقل مليء بالأشواك، حيث لا يمكن لأي نبتة أن تنمو وتزدهر.

 

علينا جميعاً أن نسعى لبناء مجتمعات تنعم بالسلام والتسامح، فالعفو هو الطريق الصحيح لتحقيق السعادة والسلام الداخلي، أما عند ربط موضوع الانتقام والتسامح بمعنى المعاناة في الحياة، فنجد أن المعاناة جزءٌ لا يتجزأ من الحياة الإنسانية، لكن الانتقام ليس بالضرورة أن يكون إحدى طرق التعامل مع هذه المعاناة!، لأن الانتقام ليس الأسلوب الأمثل للتعامل مع المعاناة، فهناك طرقاً أخرى أكثر فعالية وإنسانية.

 

إن الحديث عن الانتقام والتسامح يمكن أن يثير تساؤلات عميقة حول هدف الحياة، مثلما إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة أم الانتقام، أو بناء علاقات إنسانية قوية، والمساهمة في بناء مجتمع أفضل!،

في نهاية المطاف، كل فرد يتحمل مسؤولية أفعاله، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإذا اختار الفرد الانتقام، فإنه يتحمل مسؤولية العواقب الناتجة عن هذا الاختيار.

يمكن مناقشة العلاقة بين الحرية والضرورة في سياق الانتقام والتسامح، وهل الإنسان حر تماماً في اختياراته، أم أن هناك عوامل خارجية تؤثر على قراراته؟

 

الحياة الإنسانية تشبه رحلة بحرية يواجه فيها الإنسان العديد من العواصف والأمواج، حيث يشبه الانتقام العاصفة التي تدفع السفينة بعيداً عن مسارها، بينما يشبه العفو والتسامح المرساة التي تثبت السفينة وتساعدها على تجاوز العواصف بأمان، لذا، يجب على الإنسان أن يتعلم من تجاربه ويستفيد منها في تطوير نفسه، حيث يمكن أن تكون المعاناة فرصة للنمو والتطور وتجعل الشخص أفضل، وعلينا اختيار طريق العفو والتسامح لأنه السبيل إلى السلام والسعادة الحقيقية.

 

يقول المثل: "الانتقام طَبَقٌ يُقدّم بارداً"، وأقول: التسامح كفضيلة إنسانية، وإن كان صعباً، هو الطريق الأسمى لتحقيق السلام الداخلي والخارجي، فهو يسحبنا من أسر الماضي، ويفتح أمامنا آفاقاً جديدة للحياة، فالتسامح هو القوة التي تحررنا من قيود العبودية النفسية، التي نتعرض لها بسبب الأحداث المؤلمة والأشخاص الذين تسببوا لنا بالأذى في الماضي، فقد نجد أنفسنا عالقين في دوامة من الأفكار السلبية، والمشاعر المسمومة مثل: الغضب والحقد، ورغبة في الانتقام، وهذه المشاعر تأسرنا وتمنعنا من المضي قدماً، لكن التسامح يفتح لنا آفاقاً جديدة ويمنحنا القدرة على قطع الروابط العاطفية السلبية بالماضي.

 

عندما نتخذ قرار التسامح، نبدأ في رؤية المستقبل بألوان أكثر إشراقاً، ونصبح قادرين على بناء علاقات جديدة، وتحقيق أهداف جديدة، والنمو كأشخاص، فالتسامح ليس فقط بالاعتراف بالأخطاء الماضية، بل هو القوة التي تعيد لنا الحياة، وتمنحنا الفرصة للاستمتاع بالحاضر والتطلع إلى المستقبل.

 

التسامح يمكننا من ترك الماضي وراءنا والتوجه نحو مستقبل أكثر إيجابية وسعادة، فعندما نسامح الآخرين، فإننا في الحقيقة نسامح أنفسنا أيضاً، ونطلق سراحنا من العبء النفسي الذي يحمله الماضي، فعلى سبيل المثال، شخص تعرض للخيانة من صديق مقرب، قد يظل هذا الشخص عالقاً في الماضي، يفكر باستمرار في الخيانة التي تعرض لها، ويحمل في قلبه مشاعر من الغضب والحقد، وهذا يؤثر على علاقاته مع الآخرين وعلى سعادته، ولكن إذا اختار هذا الشخص التسامح، فسيتمكن من ترك الماضي وراءه، وبناء علاقات جديدة مبنية على الثقة والاحترام.

 

أخيراً، التسامح هو خطوة نحو العفو الذي يعبر عن تحرير الذات من مشاعر الغضب والانتقام، وهو المفتاح لتحررنا النفسي، ويمثل خطوة محورية نحو حياة مليئة بالسلام الداخلي والسعادة، وبتسامحنا، نستطيع أن نعيش الحاضر بكل ما فيه من جمال، ونبني مستقبلاً يستحق أن نتطلع إليه.

 

جهاد غريب

يناير 2025

قصيدة تمشي على الأرض!

  قصيدة تمشي على الأرض! ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخط...