قوة التسامح: تحررنا من قيود العبودية
النفسية.. عبر طريق العفو وسلام الإنسانية!
الظلم جرح عميق يُثقل النفس!، ويترك فيها ندوباً لا تندمل بسهولة، لكن
الانتقام ليس دواءً لهذا الجرح، بل هو سُمٌّ يسري في الروح!، يزيد من مرارتها، ويغلق
أبواب الصفح والمصالحة!
من ذاق مرارة الظلم يدرك أن حمل الألم لا يبرر رده بألم مماثل، فالانتقام،
وإن بدا لحظة انتصار، يحمل في طياته خسارة أكبر، فهو دليل ضعفٍ في الحكمة، ونقصٍ في
التجربة، وغيابٍ لنقاء النفس.
حتى لو كان الظلم جرح عميق، فالانتقام ليس شفاءً له، فحينما نُظلم، نحتاج
إلى شجاعة تتجاوز شجاعة الرد بالمثل! شجاعة التسامي فوق الألم، والنظر إلى الأفق الواسع،
حيث يتحقق العدل بعيداً عن أيدينا، إما بقوة الزمن أو بعدالة الخالق، فالظلم يترك أثره
في النفس، وقد يدفعنا إلى قسوة غير مقصودة على من حولنا، لكن مواجهة هذا الألم بنقاء
الروح هو ما يصنع الفرق. قيل في الأثر "من عفا عن ظالمه زاده الله عزّاً".
الانتقام يضاعف الخسائر، ولا يُصلح خطأً، ومن يسعى إلى العدل لا يسير في
طريقٍ مُوحشٍ كهذا، لأن الصلح بابٌ مفتوح، والانتقام يوصده بإحكام، وإن أردنا مجتمعاً
سليماً، علينا أن نُربي أرواحنا على السمو فوق جراحنا، وأن ندرك أن من يُقاوم الظلم!
يُقاوم أيضاً الرغبة في أن يُصبح ظالماً، ولو باسم الانتقام. قال الله تعالى في كتابه
الكريم: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ". إذاً،
السمو فوق الألم هو ما يخلق بيئة سليمة، فمن يرفض الظلم بحق، يرفض أن يتحول ظالماً
تحت أي مسمى.
الانتقام يترك أثراً نفسياً واجتماعياً ينعكس على الجميع، فاللجوء إلى
الانتقام يعكس ضعف النفس، أما التسامي فوق الجراح فهو شجاعة، والعدل يتحقق بالصبر وعدالة
الخالق، لا بردّ الظلم بظلم.
ولنعتبر من قوله تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".
إن الانتقام، هذا السُمٌّ الذي يتسرب إلى أعماق النفس، هو ليس مجرد رد
فعل عاطفي، بل هو سلوك معقد يتأثر بعوامل نفسية واجتماعية عميقة!، فالإنسان الذي يتعرض
للظلم يشعر بالإحباط والغضب، وقد يدفعه ذلك إلى الرغبة في الانتقام!، ربما، ليشعر بالقوة
أو لاستعادة توازنه النفسي، لكن هذا الشعور بالانتصار زائف، فهو لا يداوي الجرح، بل
يعمقه، ويؤدي إلى خلق دائرة من العنف لا تنتهي.
الانتقام كالدودة التي تنخر في الجسد والروح، ولا يتوقف عند الألم الأولي،
بل يُكرر معاناة الذات، مُعمِّقاً جراحها النفسية وجاعلاً من الألم ذكرى دائمة، وهذا
يُعطِّل عملية الشفاء، ويُبقي على المشاعر السلبية من مرارة وحقد مُتصاعدَين، مُشوِّهاً
صورة الذات حتى ترى نفسها ضحية مظلومة!، ما يؤثر على الثقة بالنفس، ويُبرر العنف كرد
فعل طبيعي على الظلم المُتعرض له، مُعززاً السلوكيات العدوانية.
إن المنغمس في الانتقام يجد نفسه محاصراً بالعزلة الاجتماعية!، وعاجزاً
عن بناء علاقات صحية، إذ يولد الانتقام مشاعر العداء والكراهية، مما يُنفّر الآخرين،
ويُبقي صاحبه وحيداً، وهذه المشاعر السلبية قد تتسبب في ظهور اضطرابات نفسية كالقلق
والاكتئاب، مما يُؤثر سلباً على جودة الحياة اليومية.
من خلال كل ما سبق، يتضح أن الانتقام يُولِّد العنف، حيث يتحول الضحية
إلى جلاد، ويُصبح الجلاد الجديد ضحية، مُوَّسعاً دائرة العنف!، ومُنتشراً في المجتمع،
وهذا العنف يُدمِّر الثقة بين الناس، ما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتقويض العلاقات،
فيُصبح الحفاظ على الأمن والاستقرار أمراً صعباً في مجتمع تُسيطر عليه مشاعر الخوف
وعدم الأمان، كما يتم نقل هذه المشاعر السلبية للأجيال القادمة، حيث يُقلِّد الأطفال
عنف آبائهم، مُستمرين في دائرة العنف!، ويمكن تشبيه الانتقام بجرح عميق في الجسم، إذا
لم يُعالج بالعفو والصفح، فإنه يتلوث وينتشر في النفس والمجتمع، مُؤدياً إلى تدمير
كبير.
لهذا، يجب علينا جميعاً أن نكسر هذه الدائرة المفرغة من العنف والانتقام،
ونسعى لبناء مجتمع يقوم على التسامح والتفاهم، فالانتقام لا يحل المشاكل، بل يُعقِّدها،
والعفو هو السلاح الأقوى، لمواجهة الظلم وبناء مستقبل أفضل.
في مجتمعاتنا، يُتوقّع من الأفراد ردّ الأذى بأذى، باعتباره نوعاً من الدفاع
عن الكرامة، وهذه التوقعات قد تدفع الأفراد، لاتخاذ قرارات انتقامية تتعارض مع قناعاتهم
الشخصية، بينما تتباين الثقافات في نظرتها إلى الانتقام! لكن أغلبها يُعلي من قيمة
العفو والصفح، وبالرغم من ذلك، تلعب بعض وسائل الإعلام -للأسف- دوراً محورياً في تشكيل
هذه القيم، حيث تُقدّم صوراً نمطية للانتقام! كعمل بطولي يجذب بعض الأفراد لمحاكاته.
وهنا، مع الأسف، يرى بعض الأفراد في الانتقام وسيلة لإعادة التوازن إلى
حياتهم، حيث يشعرون أنهم قد تعرضوا للظلم، ويحتاجون لاستعادة كرامتهم وقوتهم، وقد يدفع
الخوف من الضعف بعض الأفراد إلى الانتقام!، لإثبات مكانتهم الاجتماعية!، وقد يكون الانتقام
وسيلة لجذب انتباه الآخرين، حيث يعتقد البعض أنه سيجعلهم محور اهتمام الجميع.
كثيراً ما يُعتَبَر الانتقام عند ضعاف الشخصية، وسيلة للدفاع عن النفس،
وحمايتها من أي أذى مستقبلي، وقد يدفع شعورهم بعدم الأمان إلى الانتقام بغرض حماية
أنفسهم! من تكرار التجربة المؤلمة، لذا تشبه الدوافع الاجتماعية للانتقام أمواجاً تجرف
الأفراد نحو اتخاذ قرارات غير عقلانية.
ومن خلال تلك المنطلقات يجب علينا جميعاً أن نعمل على تغيير هذه الدوافع
الاجتماعية السلبية، وبناء مجتمع يقوم على الاحترام المتبادل والتسامح، لذا، يجب أن
ندرك أن العفو هو السبيل الصحيح لتحقيق السلام والوئام.
قد تلعب التنشئة الاجتماعية دوراً كبيراً في تشكيل هذه النظرات، حيث تؤثر
الأفكار والقيم التي يتلقاها الفرد منذ صغره على سلوكه، وتفاعلاته مع الآخرين، وربما
ترتبط العديد من العادات والتقاليد ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الانتقام، فبينما تشجع
-للأسف- بعض العادات على الانتقام، لكن تسعى أخرى إلى تهدئة النفوس وتحقيق السلم.
تدعو معظم الأديان إلى التسامح والعفو، وتعتبر هذه القيم من أهم مبادئها،
فالأديان توفر إطاراً أخلاقياً يساعد الأفراد على فهم معنى الحياة والتعامل مع الصعاب،
كما تؤمن الأديان بوجود عدالة إلهية، حيث يعتبر أن الله هو الذي سيحاسب الظالمين، مما
يقلل من الحاجة إلى الانتقام البشري.
لا يتعارض مفهوم العدالة الإلهية مع دور القانون والمؤسسات في تحقيق العدالة،
حيث يعمل القانون على الحد من الانتقام من خلال وضع قيود على العنف، وتوفير آليات للعدالة،
وتلعب المؤسسات المختلفة، مثل القضاء والشرطة، دوراً حاسماً في تحقيق العدالة، وحماية
حقوق الأفراد، علاوة على ذلك، يسهم المجتمع في خلق بيئة آمنة تحترم حقوق جميع أفراده،
ويتوجب على الحكومات توفير هذه البيئة من خلال تطبيق القانون، وحماية حقوق الإنسان.
يمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً هاماً في نشر قيم التسامح والتعايش
السلمي، إذ يشبه المجتمع السلمي بحديقة مزهرة، حيث تتعايش الأزهار بسلام، بينما يشبه
المجتمع الذي ينتشر فيه العنف والانتقام بحقل مليء بالأشواك، حيث لا يمكن لأي نبتة
أن تنمو وتزدهر.
علينا جميعاً أن نسعى لبناء مجتمعات تنعم بالسلام والتسامح، فالعفو هو
الطريق الصحيح لتحقيق السعادة والسلام الداخلي، أما عند ربط موضوع الانتقام والتسامح
بمعنى المعاناة في الحياة، فنجد أن المعاناة جزءٌ لا يتجزأ من الحياة الإنسانية، لكن
الانتقام ليس بالضرورة أن يكون إحدى طرق التعامل مع هذه المعاناة!، لأن الانتقام ليس
الأسلوب الأمثل للتعامل مع المعاناة، فهناك طرقاً أخرى أكثر فعالية وإنسانية.
إن الحديث عن الانتقام والتسامح يمكن أن يثير تساؤلات عميقة حول هدف الحياة،
مثلما إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة أم الانتقام، أو بناء علاقات إنسانية قوية، والمساهمة
في بناء مجتمع أفضل!،
في نهاية المطاف، كل فرد يتحمل مسؤولية أفعاله، سواء كانت إيجابية أو سلبية،
فإذا اختار الفرد الانتقام، فإنه يتحمل مسؤولية العواقب الناتجة عن هذا الاختيار.
يمكن مناقشة العلاقة بين الحرية والضرورة في سياق الانتقام والتسامح، وهل
الإنسان حر تماماً في اختياراته، أم أن هناك عوامل خارجية تؤثر على قراراته؟
الحياة الإنسانية تشبه رحلة بحرية يواجه فيها الإنسان العديد من العواصف
والأمواج، حيث يشبه الانتقام العاصفة التي تدفع السفينة بعيداً عن مسارها، بينما يشبه
العفو والتسامح المرساة التي تثبت السفينة وتساعدها على تجاوز العواصف بأمان، لذا،
يجب على الإنسان أن يتعلم من تجاربه ويستفيد منها في تطوير نفسه، حيث يمكن أن تكون
المعاناة فرصة للنمو والتطور وتجعل الشخص أفضل، وعلينا اختيار طريق العفو والتسامح
لأنه السبيل إلى السلام والسعادة الحقيقية.
يقول المثل: "الانتقام طَبَقٌ يُقدّم بارداً"، وأقول:
التسامح كفضيلة إنسانية، وإن كان صعباً، هو الطريق الأسمى لتحقيق السلام الداخلي والخارجي،
فهو يسحبنا من أسر الماضي، ويفتح أمامنا آفاقاً جديدة للحياة، فالتسامح هو القوة التي
تحررنا من قيود العبودية النفسية، التي نتعرض لها بسبب الأحداث المؤلمة والأشخاص الذين
تسببوا لنا بالأذى في الماضي، فقد نجد أنفسنا عالقين في دوامة من الأفكار السلبية،
والمشاعر المسمومة مثل: الغضب والحقد، ورغبة في الانتقام، وهذه المشاعر تأسرنا وتمنعنا
من المضي قدماً، لكن التسامح يفتح لنا آفاقاً جديدة ويمنحنا القدرة على قطع الروابط
العاطفية السلبية بالماضي.
عندما نتخذ قرار التسامح، نبدأ في رؤية المستقبل بألوان أكثر إشراقاً،
ونصبح قادرين على بناء علاقات جديدة، وتحقيق أهداف جديدة، والنمو كأشخاص، فالتسامح
ليس فقط بالاعتراف بالأخطاء الماضية، بل هو القوة التي تعيد لنا الحياة، وتمنحنا الفرصة
للاستمتاع بالحاضر والتطلع إلى المستقبل.
التسامح يمكننا من ترك الماضي وراءنا والتوجه نحو مستقبل أكثر إيجابية
وسعادة، فعندما نسامح الآخرين، فإننا في الحقيقة نسامح أنفسنا أيضاً، ونطلق سراحنا
من العبء النفسي الذي يحمله الماضي، فعلى سبيل المثال، شخص تعرض للخيانة من صديق مقرب،
قد يظل هذا الشخص عالقاً في الماضي، يفكر باستمرار في الخيانة التي تعرض لها، ويحمل
في قلبه مشاعر من الغضب والحقد، وهذا يؤثر على علاقاته مع الآخرين وعلى سعادته، ولكن
إذا اختار هذا الشخص التسامح، فسيتمكن من ترك الماضي وراءه، وبناء علاقات جديدة مبنية
على الثقة والاحترام.
أخيراً، التسامح هو خطوة نحو العفو الذي يعبر عن تحرير الذات من مشاعر
الغضب والانتقام، وهو المفتاح لتحررنا النفسي، ويمثل خطوة محورية نحو حياة مليئة بالسلام
الداخلي والسعادة، وبتسامحنا، نستطيع أن نعيش الحاضر بكل ما فيه من جمال، ونبني مستقبلاً
يستحق أن نتطلع إليه.
جهاد غريب
يناير 2025