الخميس، 30 يناير 2025

 

العلم والمعرفة... بين نور العقل وحكمة التجربة!

 

العلم هو النور الذي يبدد ظلام الجهل، لكنه وحده ليس كافياً؛ لتشييد صروح الحكمة!، حيث تبرز هنا أهمية المعرفة، التي تُكتسب عبر تراكم التجارب، وعبر الاحتكاك بالحياة وتفاعلاتها، وعبر الدهشة الأولى لطفل يتعلم السير، وعبر حكايات الأجداد التي تُروى على ضوء القناديل.

 

منذ الأزل، كان الإنسان يخط طريقه بين نهرين: نهر العلم المتدفق بقوة الحقائق والنظريات، ونهر المعرفة الذي تتشكل مياهه من مشاعر الإنسان وتجربته، وهناك فرق جوهري بينهما، فالعلم يُدرّس في القاعات، أما المعرفة فتنمو في الأزقة والميادين، وفي الحوارات العميقة بين الأجيال، وفي جلسات السمر التي يروي فيها الأب لابنه كيف يتعامل مع الناس؟ وكيف يُحسن التصرف في المواقف؟ وكيف يزن الكلمة قبل أن ينطق بها؟ قال الجاحظ: "المعرفة حياة القلوب، ونور الأبصار، ورياض العقول".

 

العلم والمعرفة هما جناحا الإنسان في رحلته نحو فهم الكون، وما يحيط به، فالعلم يمثل تلك الحقائق المكتسبة من خلال المؤسسات التعليمية الرسمية، وعبر المناهج والكتب والمحاضرات، وعبر المدارس والجامعات والمختبرات، حيث يتعلم الفرد النظريات والقوانين العلمية، ويرصد الظواهر الطبيعية عبر أدوات دقيقة وتجارب موثوقة، ومن خلال العلم، يستطيع الإنسان أن يضع يده على مفاتيح الكون، يفك رموزه ويُسبر أغواره، لكن، بينما يظل العلم أساسياً في حياتنا الأكاديمية، لا يمكن إغفال أن المعرفة المكتسبة من الأسرة والمجتمع تشكل الجوهر الثقافي وسلوكنا الاجتماعي.

 

العلم يعلمنا كيف نصنع سفينة، لكن المعرفة تخبرنا كيف نبحر بأمان وسط العواصف، هكذا، نرى أن العلم يمنحنا الأدوات الأساسية، بينما تقدم المعرفة التوجيه العملي في حياتنا، والعلم يزودنا بمبادئ الهندسة، لكن المعرفة هي التي ترشدنا إلى جماليات العمارة وأسرار التناسق، والعلم قد يعلمنا كيف نكسب المال، لكن المعرفة تعلّمنا كيف نحترم القيم والمبادئ في طريقنا إلى المال، وشتان بين من يملك العلم دون وعي، وبين من يملك المعرفة دون شهادة، فالأول قد يكون أسير الحروف، والثاني قد يكون سيد الفهم.

 

المعرفة أعمق وأكثر تجذراً في حياة الإنسان، إنها تلك الخبرات المتراكمة التي يكتسبها الفرد عبر الزمن، من خلال تفاعله مع الحياة والناس، واختباره لمختلف المواقف، والمعرفة مرتبطة بالخبرة، وتزداد عمقاً مع تقدم الإنسان في العمر، فكلما عاش الإنسان أكثر، زادت تجاربه، وأصبح أكثر حكمة وقدرة على التعامل مع مختلف الأمور.

 

العلم شعلة تنير الدروب، والمعرفة جذور تمتد في عمق الزمن، وبينهما يولد الوعي الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فليس كل متعلم عالِم، وليس كل صاحب شهادة حكيماً، إذ إن للمعرفة سحراً لا تمنحه الكتب، وللعلم أجنحة لا تطير دون تجربة،

إذاً، بينما يوفر العلم الأساسيات، تمنحنا الحكمة من خلال التجارب القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ في حياتنا اليومية.

 

العادات والتقاليد، والقيم والأصول، كلها أجزاء من المعرفة التي لا يمكن اكتسابها في صفوف المدارس، بل تُغرس في الفرد من خلال الأسرة والمجتمع، فالعادات والتقاليد تختلف من مجتمع إلى آخر، وهي تمثل الجوهر الثقافي للأمة، ومهما بلغ الإنسان من درجات العلم، يظل بحاجة إلى حكمة ومعرفة من سبقوه، سواء كانوا من أفراد أسرته، أو من كبار السن في مجتمعه، فالوالدان، على سبيل المثال، هما مصدر مهم للمعرفة في كيفية التعامل مع العائلة الممتدة، والعلاقات الاجتماعية المختلفة، وبينما يعزز العلم فهمنا النظري، تأتي المعرفة لتغني حياتنا اليومية، فهي ما نكتسبه من خلال التفاعل مع أفراد مجتمعنا.

 

لا يمكن فصل المعرفة عن الحياة، فهي التي تهمس في آذاننا بكلمات الحكمة حين نُقبل على الزواج، وحين نجلس في مجلس العائلة، وحين نشارك في المناسبات الاجتماعية، وحين نختار كلماتنا بعناية في العزاء، وحين نفرح بلباقة في الأعراس، وهذه الجوانب لا تُدرّس في الكتب، بل تُستقى من القلب إلى القلب، ومن الكبير إلى الصغير، ومن التجربة إلى الواقع.

 

العلم والمعرفة يكملان بعضهما البعض، فبينما يمنح العلم الإنسان الأدوات لفهم العالم بشكل دقيق وممنهج، تمنحه المعرفة القدرة على التعامل مع هذا العالم بحكمة وفطنة. قال الفيلسوف الفرنسي مونتين: "العقل المثقف بدون قلب حكيم يشبه سيفاً في يد أحمق".

 

مهما بلغت بنا الشهادات، ومهما علا صرح العلم الذي بنيناه، فإننا نظل في حاجة إلى المعرفة التي لا تورَّث بالكتب، بل تُنقل بالروح، وبالتفاعل، وبالحكايات العابرة التي تحمل في طياتها دروساً لا تقدر بثمن، فكما يحتاج الجسد إلى جناحين كي يحلق، يحتاج الإنسان إلى العلم ليكتسب المعلومات، وإلى المعرفة ليحسن استخدامها.

 

يقول الفيلسوف سقراط: "الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش". فالعلم يمكن أن يمنح الإنسان القوة والمعرفة، لكنه لن يُنير له درب الحكمة إن لم يكن مترافقاً مع التجربة والمعرفة العميقة.

 

التوازن بين العلم والمعرفة هو ما يمنح الإنسان القدرة على بناء حياة متكاملة، ويستطيع من خلالها ليس فقط أن يفهم العالم، بل أن يتفاعل معه بذكاء وحكمة، فالعلم يمنح الإنسان القدرة على التقدم والتطور، بينما تمنحه المعرفة القدرة على العيش بحكمة وتوازن.

 

يُعتبر العلم والمعرفة وجهين لعملة واحدة، لا يمكن الاستغناء عن أي منهما، فالسعي الدائم لاكتساب العلم والمعرفة هو ما يجعل الإنسان ينمو ويتطور، ويصبح قادراً على مواجهة تحديات الحياة بذكاء ورُشد.

 

وهكذا، لا يكفي أن نطلب العلم وحده، بل علينا أن نبحث عن جوهره، وعن الحكمة التي تكمن بين السطور، وعن الدروس التي لا تُكتب وإنما تُحس، فالعلم يسكن العقول، لكن المعرفة تسكن الأرواح، والعقل وحده قد يضل الطريق إن لم يكن معه بوصلة الحكمة.

 

قال سقراط يوماً: "أنا أعرف شيئاً واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً". تلك المقولة، رغم تناقضها الظاهري، تلخص جوهر الفارق بين العلوم والمعرفة العميقة، فكلما تعمق الإنسان في الحياة أدرك أن فهمه للعالم لا يزال ناقصاً، وأنه دائم الحاجة إلى خبرات الآخرين.

 

أخيراً، يجدر بالإنسان أن يدرك أن العلم والمعرفة هما مفتاحا سعادته وازدهاره، يفتحان أمامه أبواب الحكمة والقدرة على العيش بسلام وتوازن.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أبوابُ الوجود.. ومفاتيحُ الروح التي تَضيعُ بين النسيانِ والحكمة!

  أبوابُ الوجود.. ومفاتيحُ الروح التي تَضيعُ بين النسيانِ والحكمة! الحياةُ سلسلةٌ لا تنتهي من الأبواب؛ بعضُها يُفتحُ على مَراتِفَ من الضوء، ...