الخميس، 30 يناير 2025

 

عزف القلب بين الحنين والألم!

 

القلب كائن حيّ لا يهرم ولا يشيخ، يعزف ألحانه في كل الفصول، لكنه حين يختار لحن الحنين، يبعث في الروح رعشة لا تهدأ، فتستجيب لها الأوجاع راقصة على مواضع الألم الحائر، كأنها ترفض المغادرة، وكأن الشاعر محمود درويش كان يصف ذلك حين قال: "أنا لغتي، وأنا ما قالت الكلماتُ حين انكسرتُ"، فالحنين ليس مجرد شعور عابر، بل حالة وجدانية تجتاح الكيان، تفتح نوافذ الذكرى، وتعيد ترتيب التفاصيل التي حسبناها في طيّ النسيان.

 

الشتاء، حين يأتي، يضيف لهذا العزف بعداً آخر!، فالبرد لا يقتصر على الأجساد، بل يتسلل إلى أعمق زوايا الروح، يحفر في أوتار الأنين، ويكشف عن المشاعر في أصدق صورها، تماماً كما قال نيتشه: "من لم يحمل في قلبه فوضى، لن يستطيع أن يبدع نجمة ترقص"، ففي البرد، تتجلى الفوضى الداخلية، تلك التي تُعيد الإنسان إلى ذاته، وإلى جدران ذاكرته التي تنبض بالقصص والمواقف والوجوه التي غابت ولم تغب، فتنعكس المشاعر كما لو أنها لوحة زيتية رسمتها اليد الخفية للزمن.

 

الإنسان لا يحنّ إلى الأماكن بحد ذاتها، بل إلى اللحظات التي عاشها هناك، وإلى الأصوات، وإلى الضحكات التي ترددت في الفراغ، وإلى الدفء الذي لم يكن يدرك قيمته إلا بعد أن افتقده. قال غسان كنفاني: "الغريب الحقيقي هو الذي يجد نفسه في كل مكان، لكنه لا يجد نفسه في أي مكان"، هذا هو الحنين؛ أن تكون حاضراً في الواقع، لكن قلبك يظل عالقاً في محطة بعيدة، ينظر من نافذة القطار إلى ماضٍ لم يرحل تماماً.

 

الحياة تُجبرنا على الاستمرار، لكنها لا تُلزم القلب بأن ينسى!، فهناك أغانٍ قديمة، ورسائل لم تُرسل، وأبواب تركناها مفتوحة على أمل عودة لن تأتي، ومع ذلك، يستمر الإنسان في السير، ويضع يده على قلبه كلما داهمه الحنين، ثم يتنفس بعمق، ويمضي، لأنه كما قال نزار قباني: "نحن لا نُشفى من ذاكرتنا".

 

ربما لا يمكن الهروب من الحنين، لكنه يمكن أن يكون مصدراً للقوة، لا للضعف! لذا علينا أن نتقبله كما هو، وأن نسمح له بأن يلون لوحات مشاعرنا، دون أن يُحكم قبضته على حاضرنا، فالماضي جزء منّا، لكنه ليس كلّنا، والموسيقى التي يعزفها القلب، وإن حملت أنغام الحنين، تظل قادرة على خلق ألحان جديدة، تتراقص عليها الحياة من جديد.

 

أخيراً، القلب يعزف دائماً لحن الحنين، فتتراقص الأوجاع على مواضع الألم الحائر في كل المواسم.

والبرد يأتي، ويجتاح أوتار الأنين، فتنعكس المشاعر في أصدق لوحة، معلقة على جدران كل المراسم.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة إلى النور... تبدأ من مجلس العائلة!

رحلة إلى النور... تبدأ من مجلس العائلة! اللقاء الأسبوعي ليس مجرد موعد في التقويم أو فعالية روتينية، بل هو صلاة أرضية ترفع القلوب قبل الأيدي،...