الخميس، 30 يناير 2025

 

بين التناقض والوهم: كشف أقنعة الشخصيات المزدوجة وأسرارها!

 

إن التناقض والوهم هما مصطلحان يتداخلان في ذهن الإنسان، ويتشابكان في خيوط الحياة اليومية ليؤثرا على أفعاله وكلماته، وكلاهما يطاردان العقول، ويصنعان حالة من الضبابية في التفكير والتوجيه، بل أحياناً يخلقان وهماً واقعياً يظن الفرد فيه أنه قد وصل إلى يقين ثابت، بينما هو في الحقيقة ضائع في متاهة من التناقضات التي تزيّن له نفسه.

 

التناقض في الطرح، يأتي غالباً ليكشف جوانب مخفية في الذات البشرية، تلك الجوانب التي تخشى التعرّي أمام الحقيقة، فتختبئ وراء الكلمات المعسولة والمبادئ الزائفة، محاولاً بناء صورة ذهنية عن صاحبها في ذهن الآخر تختلف تماماً عن جوهره.

يقول أرسطو: "القول السهل في الظروف الصعبة هو أعظم دليل على الفهم الزائف".

 

من أمثلة التناقض في القيم والمبادئ!، شخص ينادي بالبساطة والتواضع، لكنه يسعى وراء المظاهر والتفاخر أمام الآخرين، أو شخص يتحدث عن أهمية الثقة بالنفس، لكنه يبحث دائماً عن تأكيد الآخرين لقراراته قبل الإقدام على أي خطوة. يقول نيلسون مانديلا: "ليس المهم ما يقوله الناس، ولكن المهم ما يفعلونه".

 

إن التناقض في المشاعر والدوافع، يكشف أيضاً عن خلل عميق في فهم الذات والآخرين!، تجد الشخص الذي يتحدث عن قيم نبيلة وثوابت راسخة، لكن أفعاله تختلف كلياً عنما ينطق به لسانه!، هذا الشخص، الذي يحمل على كاهله شعار الفضيلة في العلن، يترك وراءه خيوطاً من التناقضات تفضحه في الخفاء! والواقع أن التناقض ليس مجرد تعبير عن تنافر الأفكار، بل هو أيضاً انقسام داخلي بين ما يريد الإنسان أن يظهره وما هو عليه في أعماقه.

يقول إيمانويل كانط: "أحياناً، نجد أنفسنا نعيش في تناقضات لا نجد لها تفسيراً سوى أن القلوب أحياناً تتبع العواطف أكثر من العقل".

 

من بعض الأمثلة من حياتنا اليومية لنرى كيف يتجلى هذا التناقض في تصرفات الناس: شخص يظهر التعاطف مع الآخرين، لكنه في المواقف الفعلية لا يتصرف بطريقة تدعم هذا التعاطف، أو شخص يعبر عن الحب والاهتمام بشريكه العاطفي، لكنه يتجاهل مشاعره الحقيقية ولا يقدم أي دعم حقيقي عند الحاجة.

في الحقيقة، قد يلبس الآخرون ثوب الوهم، ظناً منهم أنهم يتعاملون مع شخص يمتلك مبادئ ثابتة لا يتزعزع، بينما هم في حقيقة الأمر يتعاملون مع شخص يسوق لهم أفكاراً يقتنع هو نفسه بأنها غير حقيقية. يقول كارل يونغ: "الإنسان الذي يخفي ما بداخله يعيش في وهم مستمر".

 

كيف يمكن للمرء أن يكشف هذا التناقض؟ لا يكفي فقط أن نستمع للكلمات، بل يجب أن نُفَكِّر فيما وراء الكلمات، ونتأمل الأفعال والمواقف، فعندما يتحدث الإنسان عن القيم والمبادئ، علينا أن نُمعن النظر في أفعاله وحركاته الجسدية، فالعين هي مرآة الروح، وحركات الجسد قد تكون أكثر تعبيراً عن حقيقة ما يدور في داخل الشخص من الكلمات نفسها.

 

التناقض الذي يظهر في تصرفات الإنسان يفضح نفسه عندما تتناقض أفعاله مع قوله، ويظهر جلياً حينما تكون نية الشخص مختلفة عما يظهره من مشاعر وأحاسيس.

 

كم مرة قابلت شخصاً يروج لفكرة معينة، لكنه في الواقع يتصرف بعكسها تماماً؟ من بعض المواقف التي قد تكون مرّت علينا جميعاً: بالنسبة للتناقض في العلاقات الاجتماعية، شخص يتحدث دائماً عن أهمية الصداقة والوفاء، لكنه في الواقع يتجنب مساعدة أصدقائه عند الحاجة، بل وربما يختفي في الأوقات الصعبة!، أو شخص يدعي التسامح، لكنه في الواقع يحمل ضغينة ولا ينسى الإساءات، أما التناقض في بيئة العمل مدير يشدد على أهمية الالتزام بالمواعيد، لكنه نفسه يتأخر في تسليم المهام أو الاجتماعات، أو موظف يشتكي من ضغط العمل ويطالب بالراحة، لكنه في الوقت نفسه يضيع وقت العمل في أمور غير منتجة.

 

الفكرة هنا هي أن الشخص المتناقض يبذل جهداً لبناء صورة غير حقيقية عن ذاته أمام الآخرين، بينما في الواقع هو لا يملك التماسك بين داخله وخارجه. يقول فريدريك نيتشه: "العقل هو الذي يرى الحقيقة؛ والقلب هو الذي يحس بها".

 

من أجل كشف الإنسان المتناقض، يجب أن نطور قدرتنا على الاستماع الجيد، وأن نتحلى بالصبر في تحليل كل كلمة وكل إشارة، فالاستماع الجيد ليس مجرد استقبال للكلام، بل هو عملية تحليل دقيقة، تفتح لنا أبواب الفهم الحقيقي للأفكار والمواقف، لذا علينا أن نراقب بعناية حركات جسد المتحدث، لأن لغة الجسد تكشف عن الكثير مما يختبئ وراء الكلمات، فالحركات التكرارية، مثل تحريك اليدين، قد تكون دلالة على توتر داخلي، أو عدم الراحة مع ما يقوله الشخص، وبالتالي تفضح التناقض الذي يحاول إخفاءه.

 

لكن كيف يمكننا تمييز هذه التناقضات عندما لا تكون الكلمات كافية للكشف عنها؟ في كثير من الأحيان، لا يعبر الشخص عن حقيقة مشاعره بالكلمات فقط، بل تظهر هذه المشاعر في لغة جسده، وفي نبرة صوته، وفي تعبيرات وجهه التي قد تفضحه أكثر مما يظن.

 

لغة الجسد تكشف عن التناقض، مثل: تجنب النظر المباشر عند الحديث عن أمر يدّعي اقتناعه به، والتململ، أو الحركات التكرارية التي تعكس توتراً داخلياً، وتفاوت نبرة الصوت بين الحماس المصطنع والحقيقة الداخلية.

 

من باب النصيحة، يجب أن ندرك أن التناقض ليس سوى سجن داخلي يُقيّد صاحبه في دوامة من التوتر وعدم الاستقرار، ومن المهم أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، وألا نسمح للتناقض أن يفسد حياتنا أو يضلل من حولنا. يقول سقراط: "كل شخص يرغب في أن يكون صادقاً مع الآخرين، ولكن الأهم أن يكون صادقاً مع نفسه أولا".

 

أما النصيحة لمن يتعامل مع المتناقض، هي أن يكون حذراً، وأن يتعلم كيف يميز بين الحقيقة والوهم، فعلى الرغم من أن الإنسان المتناقض قد يظهر للآخرين بصورة معينة، إلا أن التعمق في التعامل معه، وتحليل تصرفاته بعناية يمكن أن يساعد في كشف أبعاده الحقيقية. يقول ماري كوري: "عندما تعرف نفسك جيداً، تصبح قادراً على التعامل مع التناقضات الخارجية".

 

يجب أن يتذكر المرء دائماً أن الصدق مع النفس هو الطريق الوحيد للسلام الداخلي، وأن المتناقض يعيش في حالة من الفوضى الذاتية التي قد تؤدي به إلى عزلة غير روحانية! عزلة اجتماعية وعاطفية.

 

في الختام، إن التناقض ليس سوى انعكاس للحيرة والضياع الداخلي، والوهم ليس إلا حجاباً يخفى وراءه شخصيات غير حقيقية! لنتعلم أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، ومن ثم نكون قادرين على التفاعل مع الآخرين بصدق ووعي، بعيداً عن كل تلك الأقنعة التي لا تصنع إلا وهماً زائفاً.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجل الذي يتحدث باسم الصمت!

  الرجل الذي يتحدث باسم الصمت! ليس كل من أمسك ميكروفونًا صار لسان مؤسسة، وليس كل من وقف أمام الكاميرا كان جديرًا بأن يُنصت له، ففي مكان ما، ...