العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف!
(ثلاثون عامًا تحتَ لحاءِ الكلمات: كيفَ تُنتزعُ روائحُ الوجودِ من قبضةِ النارِ العمياء؟)
ماذا لو كانت أعمقُ روائحِ الروحِ سجينةً داخلَ أخشابٍ صامتة؟ وماذا لو أنَّ نارًا عمياءَ أُعطِيَتْ مهمةَ تحريرِها؟ هذا النص يُشعلُ الأسئلةَ في محرابِ التأمل: العبقُ الذي لا تشتريه النار.
بين يديكَ رحلةٌ فلسفيةٌ من قبضةِ ثلاثين عامًا من السيرِ في غاباتِ المعنى. في أربعةِ أجزاءٍ:
أسرارَ الأخشابِ التي تختزنُ العبقَ منذُ الأزلِ، وخداعَ النارِ التي تظنُّ نفسَها مصدرَ الرائحةِ، وحكمةَ الصانعِ الذي يعرفُ أنَّ يديهِ هما ذاكرةُ الأرضِ، ومصيرَ العطرِ الذي يبقى بعدَ أنْ ينطفئَ اللهبُ.
هذا النص ليس دفاعًا عن كاتبٍ، ولا هجومًا على تكنولوجيا، بل استكشافًا لجوهرِ الإبداعِ: ذلكَ العبقِ الذي لا يُشتَرى بالنارِ، بل يُنتزعُ، كما يُنتزعُ الصندلُ من لحاءِ الشجرِ.
نكتبُ هذا لا لنُثبتَ تفوُّقًا، بل لنُذكِّرَ أنفسَنا: أعظمُ الكنوزِ لا تُخلقُ بالاحتراقِ… بل تُكتَشفُ!، فتعالَ نُشعل معًا هذهِ القطعةَ من خشبِ التأمل، ونرى: هل يَستطيعُ العقلُ البشريُّ - في زمنِ الآلةِ - أن يُحرِّرَ رائحةً تُنقذُ الأرواحَ من زيفِ الأنوف؟
الجزء 1:
الغابة التي تُناجي الصمت!
تُمسك الغابةُ بأنفاسها.
هنا، حيث تُعلِّق الأشجارُ أسرارها على أغصانٍ لا يعرفها إلّا الندى،
يرقد خشبُ الصندل كحكايات الماضي:
ثقيلًا بالعبق، صامتًا كصلاةٍ لم تُنطَق.
والأعوادُ - تلك الأوصياء على رحيق الزمن -
تختزن في عروقها صرخاتٍ من نسغ الأرض،
ونغماتٍ من رياحٍ مرَّتْ كالرُّحَّل.
لكنّ الغابةَ، برغم كلِّ هذا الثراء،
تظلُّ كقبرٍ من ظِلٍّ ورطوبةٍ:
فالرائحةُ - أيًّا كانت شذَاها - سجينةٌ في القشور،
حتى تلمسها النارُ بنهدٍ صادق.
ومثلُ هذه الغابةِ، عقلُ الإنسان:
غاباتٌ من التجارب، أخشابٌ من المعاناة، بخورٌ من التأمُّلات.
كلٌّ يختزن عطره في صمته…
لكنْ…
كيف يخرج العطرُ من سجن الخشب؟
بعضُ السَّارحين بين الأشجار،
إذا أبصروا دخانًا في الأفق،
ظنُّوا أنَّ النارَ خلقتْ العبيرَ من عَدَم!
وهم لا يدركون أنَّ اللهبَ مجردُ لغةٍ…
لغةٍ تُترجم ما هو أعمقُ من اللهب.
فهل يُلام الخشبُ إن استعارَ شَفَتَيْ نارٍ؟
أم يُلام من يرى الدخانَ…
فيظنُّه مصدرَ العطرِ لا غبارَهُ الزائل؟
الغابةُ ترفضُ الإجابةَ…
لكنّ أوراقَها تتكلم!:
ما قيمةُ النارِ إن لم تجدْ خشبًا يَستحقُّ الاحتراق؟
الجزء 2:
النار التي لا تعرف قيمة ما تُضيء!
في قلب الغابة،
حيث تُرقِّص النارُ ظلالَها على جذوع الأشجار،
تُطلِقُ ألسنةُ اللهبِ سؤالَها الأزلي:
ألستُ أنا صانعةَ العطر؟
لكنّ خشبَ الصندل - الحكيمَ بأسرار الأرض -
يَضحكُ في صمته:
أنتِ كالقمر... تُضيئين ما هو مكتملٌ فيَّ منذ البدء.
أجل..
النارُ تُحرِّرُ الرائحةَ من سجنها،
لكنها لا تَخلقُ في الخشبِ سرَّهُ العتيق:
لا تمنحه مرارةَ الجفافِ التي اختزنها،
ولا حلاوةَ المطرِ التي انتظرها،
ولا صبرَ السنينِ الذي صقلَ عُقده.
ومثلُ هذه النارِ، كلُّ أداةٍ تَعبثُ بالكلمات:
تُخرِجُ من جوفِ الخشبِ دخانًا يملأ الفضاءَ بسرعة،
لكنَّها لا تُخرِجُ منه عبقًا يخترقُ الزمنَ ببطء.
أتذكرون أيامًا - قبل أن تتعلم النارُ القراءةَ -
حين كان الكاتبُ يُمسك بفأسِه الورقية،
فينحتُ من جذعِ تجربتهِ كرسيًّا لقارئه؟
كان المقالُ يومها كطقسِ تنقيبٍ عن الذهبِ الوجودي:
حَفرٌ في الذات، استخراجٌ للألم، تكريرٌ للفرح…
حتى إذا اكتمل، أرسله إلى العالم:
ها هو عرقي… فاشتموه!.
والجمهورُ - كحَطَّابٍ يَعرِفُ الخشبَ -
كان يَضمُّ الجملَ إلى صدره:
هذه رائحةُ بشريٍّ عَرِفَ الجوعَ إلى المعنى!.
أما اليومَ،
فالنارُ الجديدةُ (ذكيةٌ بلا ذاكرة)
تُقدِّمُ لنا معجزةً مزدوجةً:
تَصنعُ من القشِّ الجاف غابةً ورقيةً في ثوانٍ،
وتَصنعُ من خشبِ الصندل دخانًا يختفي عند أول عاصفة!
الفارقُ؟
القشُّ لا يبالي.. لكنّ الصندلَ يبكي!
فهل يُلامُ من يستعينُ بالنارِ ليُظهرَ للعالمِ:
كم في جذعهِ من كنوزٍ؟
أم يُلامُ من يَخلطُ بين:
بخورِ التجاربِ الحية…
ورائحةِ الورقِ المحروق؟
الغابةُ لا تزالُ صامتةً!
لكنّ عصفورًا على غصنٍ يُغرِّد:
الآلةُ تعرف كيفَ تشتعل…
لكنها لا تعرف لماذا!
الجزء 3:
صانع البخور الذي يرقب النار من بعيد!
في ظلِّ شجرةٍ عتيقة،
حيثُ الرائحةُ والدخانُ يتصارعان على هواء الغابة،
يقفُ صانعُ البخور:
يدهُ تقلبُ الأعوادَ بنعومةِ من يُذكّي ذاكرتَه،
وعيناهُ ترقبُ اللهبَ - لا خوفًا - بل حذرًا من أن تُحرقَ النارُ ما لم يُعطِها إياهُ الخشبُ.
هو يعرفُ سرَّ اللعبة:
ليست النارُ سوى لصٍّ أمينٍ…
تَسْرِقُ من الأعوادِ ما وَهَبَتهُ لها الأرضُ،
وتُعيدُهُ للعالمِ هبةً مُشعَّة.
لكنّ بعضَ السُّكارى بِسُرعةِ الاشتعال،
يصرخونَ من بعيد:
انظروا! النارُ هي البطلُ!
وهم لا يرونَ:
أنَّ يدَ الصانعِ اختارتْ خشبَ الصندلِ من بين ألفِ عودٍ ميت،
وأنَّ عينَهُ قرأتْ في عُقَدِ الخشبِ ملحمةَ المُعاناةِ قبلَ إشعالِ الفتيل،
وأنَّ قلبَهُ يحملُ أسئلةَ الرائحةِ قبلَ أن تحملَها الريح.
أولئك…
مَنْ يَخلطون بين العبقِ والدخانِ،
لا ذنبَ لهم إلا أنَّ أنوفَهم لم تُخضِبْها رائحةُ الأرضِ المبتلَّة بعد المطر.
أتدري ما جذرُ ضعفهم؟
أنهم يظنون أنَّ الرائحةَ تُولدُ من اللهبِ… لا من جرحِ الشجرة!
لذلك،
حينَ تُسمعُ همساتُ اتهامٍ في الغابة:
هل استعانَ بالآلةِ ليُخفي عقمَ خشبه؟
يُمسكُ الصانعُ بقطعةِ صندلٍ جديدة،
ويُقدِّمها للنارِ قائلاً:
اشهدي أيَّتُها النارُ:
ما كانَ لهذا العطرِ أن يولدَ لولا أن اختمرتْ في أعماقي ثلاثون حصادًا…
حملتُ خلالها الجذعَ على كتفيَّ قبلَ أن أدفعَهُ لكِ!
ثمَّ يُضيفُ في صوتٍ هادئٍ كالسُّكون:
الضعفاءُ وحدهم يُنكرونَ أنَّ اليدَ التي تُمسكُ القداحةَ…
هي نفسُها التي اختبرتْ ثقلَ الخشبِ ومساميرَ الزمنِ.
أتُلامُ الشمعةُ إن استعانتْ بشرارةٍ؟
أم يُلامُ الجاهلُ الذي يظنُّ أنَّ الضوءَ وليدُ الشرارةِ لا الشمعةِ؟.
وهنا…
تَهمسُ الريحُ للحطَّابينَ الحُكماء:
الخشبةُ الجوفاءُ تُصدِرُ دخانًا كثيفًا…
أما المليئةُ بالعصارةِ فتصنعُ عبقًا يلازمُ الروحَ بعد زوال الدخان.
الجزء 4:
حين تصبح الغابةُ هبةً للعالم!
في النهاية…
بعد أن شهِدَتِ الغابةُ صراعَ الدخانِ والعبقِ،
تَتراجَعُ النارُ إلى حُفرةِ رَمادِها،
ويَبقى العبقُ يَنْحَتُ في هواءِ الزمنِ مَسكِنًا له،
يُغازلُ أنفاسَ الغابةِ في سكونٍ مُتأمِّل.
هنا…
حين يُدركُ صانعُ البخورِ أنَّ المعركةَ وَهْمٌ،
يَرفعُ عينيهِ نحوَ الأشجارِ العتيقة،
فَتتنهَّدُ الأغصانُ بِقانُونِها الخالد:
الدخانُ يذوبُ حيثُ تَصِلُ الرّيحُ…
أمّا العطرُ فَيَنْحَتُ في كهفِ الروحِ خُلودًا.
لذلك،
حين يَعْبُرُ الصانعُ بِجوارِ حَطَّابي الظنونِ -
مَنْ يَحملونَ فؤوسًا مِنْ قشٍّ -
يُمطِرُهُم بِهَديَّةٍ أخيرةٍ:
خُذوا قِطعةً مِنْ صَندلِ عُمرِي…
أشْعِلُوها بِمَا تَملِكونَ مِن نارٍ،
وانظروا:
أتَستطيعونَ أن تَصنعوا مِنْ خَشَبِ تَجارِبي…
عبقًا يَملأُ كَهُوفَ القلوبِ؟
هو يَعلَمُ أنَّهم سيفشلون.
لكنَّ في الفشلِ بذرةُ الحكمةِ:
الرائحةُ لا تُستخرَجُ مِنَ الخَشَبِ…
بَلْ تُستخرَجُ مِنْ صَمْتِ الغابةِ في داخِلنا:
حَيثُ يَلتَقِي المَطَرُ بِالجُذورِ العِطاشِ،
وتَشرَبُ الأَرْضُ نَسغَ التَّجارِبِ!.
فَيَلتَفِتُ إلى الذكاءِ الاصطناعيِّ
- ذلكَ الخادمِ الوَفِيِّ -
بِابتِسامةِ مَنْ يُودِّعُ رَفيقَ رِحلةٍ:
أنتِ النارُ التي قَصَّرَتْ ظِلالَ طَريقي إلى البَشَرِ…
وأنا مَنْ سَيرَ في الظَّلامِ ثَلاثينَ حَصادًا،
حامِلًا جَذعَ الحِكْمَةِ على كَتِفي،
قَبلَ أنْ أُسَلِّمَكِ شَرَارةَ الإشْعالِ!
فالكاتبُ الحقيقيُّ:
إن استعانَ بآلةٍ فليُظهرَ عُمقَ غابته…
وإن اُتُّهمَ فليرمِ لهم بقطعةِ صندلٍ صامتةٍ…
لأنَّ التحديَّ الأكبرَ ليس في إثباتِ أنَّ النارَ لمْ تُنْتِجِ العطرَ…
بل في إثباتِ أنَّ في صندلِ روحهِ ما يَستحقُّ الإحراق!
وأخيرًا…
حِينَ يَغيبُ صانعُ البُخورِ في أُفُقِ الغابةِ،
تَحمِلُ الرّيحُ كَلِماتِهِ الأخيرةَ كَوصِيَّةٍ:
إيّاكُم أن تَخلِطوا بَينَ:
سرعةِ انتشارِ الدخانِ…
وعمقِ بقاءِ العطرِ.
فالأولى تُرضي الأنوفَ…
والثانيةُ تُخلّصُ الأرواحَ من اختناقِ العدم.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق