الأربعاء، 9 يوليو 2025

رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!

 
رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا! 

لا يبدأ الإنسان بحثه عن المعنى في أول الطريق، بل غالبًا ما يتأخر. إذ كيف يمكن لمن لم يرَ إلا بداية العالم أن يدرك تعقيداته؟ كيف يمكن لعينٍ لم تشهد غير إشراق الشمس أن تفهم لماذا تغيب؟ في مرحلة المراهقة وما بعدها بقليل، يغرق الإنسان في ذاته كمن يكتشف لأول مرة اتساع البحر، يدهشه كل شيء، ويرعبه كل شيء. يمضي متعثرًا بين أحلام وردية، وطموحات تتسلق جدران الخيال، ثم يكتشف أن الطريق، في حقيقته، لا يُعبّد بالورود، بل بالأشواك التي تُخفي أحيانًا وجه الحقيقة.

في خضم هذه الرحلة، لا تأتي الصراعات كزائرٍ طارئ، بل كرفيق ملازم. لا يُستأنس به، لكنه ضروري. صراعات داخل المنزل، بين جدران يفترض أنها تؤوي الحب، لكنها تضيق أحيانًا حتى تكاد تخنق الروح. وهناك صراعات مع الأقارب، من أولئك الذين يُفترض أن يكونوا مرآة دعم، فإذا بهم يعكسون صورًا متشظية من الأحكام والمقارنات. وصراعات العمل، حيث يكتشف الإنسان أن الكفاءة وحدها لا تكفي، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من كل الشهادات.

هذه الصراعات لا تمنع البحث عن المعنى، لكنها تؤجله. كمن يسير وسط عاصفة، لا يستطيع النظر إلى النجوم، لكنه يظل مدفوعًا بإحساسٍ داخلي بأن هناك ضوءًا ما، في مكانٍ ما، بانتظاره. ولأن الإنسان كائنٌ هشٌ حينًا، وجبّارٌ حينًا آخر، فإنه يميل إلى الاحتماء بالمنطقة الرمادية، تلك التي لا تَعد بالنجاة ولا توعِد بالهلاك، لكنها تمنح فسحة مؤقتة لإعادة ترتيب ما بعثرته الحياة. لا هي بياضٌ مطمئن، ولا سوادٌ مخيف، بل أشبه بمقهى صغير على قارعة الطريق، يلتقط فيه المسافر أنفاسه، يرمم صمته، ويهيئ روحه لما هو قادم.

وحين ينضج الإنسان، لا فجأةً، بل بالتدريج، كما تنضج الثمار في مواسم متأخرة، يبدأ المعنى في التشكّل. لا يظهر على هيئة نبوءة، ولا ينزل كالوحي، بل ينساب بهدوء بين المفاصل المتعبة، في نظراته، في صمته الطويل، في اختياراته التي لم يعد يبررها لأحد. يرى حينها أن كل ما سبق لم يكن عبثًا، وأن كل نزاع صغير كان أشبه بمطرٍ خفيف، حرّر الغبار عن نوافذ عقله.

لكن إن طالت الصراعات أكثر مما يجب، وإن أقام الإنسان فيها كما يُقيم في وطن، فإنها تتحول من مَعلمٍ في الطريق إلى سجن. إذ ليس الهدف أن نحمل الجراح كأوسمة، بل أن نعرف متى نُضمدها ونمضي. فالمعنى لا يسكن في المعركة، بل في ما بعدها. في اللحظة التي تخرج فيها من قلب العاصفة وأنت لا تزال واقفًا، حتى لو كان قلبك مثقوبًا.

وهكذا، لا تأتي الحياة وهي تهمس: "هاك المعنى". بل تُربكك أولًا، وتُوجعك، وتُسقطك، لتُريك أنك لا تملك شيئًا، ثم تعيدك إلى ذاتك لتبدأ من جديد. وهذه العودة هي النصيحة الخفية التي يحملها هذا النص. ليست الحياة نزهة سهلة، ولا طريقًا ممهدًا. إنما درب طويل من التناقضات، لا ننجو فيه بالقوة وحدها، بل بالمرونة، بالتجاوز الهادئ، بأن نسمح للزمن أن يُعيد ترتيب الحكاية.

الصراعات ليست عدوًّا دائمًا، بل معلمًا متنكرًا، كل ما يريده هو أن يُشكّلنا، أن ينحت زوايانا الحادة، ويرسم ملامحنا العميقة. والبحث عن المعنى لا يأتي ونحن نلهث في الركض الأعمى، بل حين نجلس، بعد كل هذا، على حافة الوقت، ونفهم أن كل ما مرّ... كان ضروريًا لنصل.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!

  رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!  لا يبدأ الإنسان بحثه عن المعنى في أول الطريق، بل غالبًا ما يتأخر. إذ كيف يمكن لمن لم يرَ إلا بداية العالم أن ي...