أبوابُ الوجود.. ومفاتيحُ الروح التي تَضيعُ بين النسيانِ والحكمة!
الحياةُ سلسلةٌ لا تنتهي من الأبواب؛ بعضُها يُفتحُ على مَراتِفَ من الضوء، وبعضُها يُوصدُ بإحكامٍ كأنما خلفَه عالَمٌ لم يَكُنْ! ونحنُ، في زحمةِ هذا الوجود، نجدُ أنفسَنا أحيانًا أمامَ خيارٍ وحيد: أن نَدفعَ البابَ بقوةٍ حتى يُطبقَ على ما وراءَه، ثم نَنسى - أو نُظهِرُ النسيان - أينَ رمينا مفاتيحَه. "لا أكره أحدًا"، هكذا نُرددُ في صمت، بينما نُراقبُ ظلَّنا يتسللُ من تحتِ بابٍ أغلقناه ذاتَ خيبة. لم يكُنِ الإغلاقُ فعلًا متهورًا، بل أشبه بمراسمِ وداعٍ صامتة تُعلنُ نهايةَ موسم.
الحياة ليست أكثر من ممر طويل تصطف على جانبيه أبواب كثيرة؛ بعضها يُفضي إلى الضوء، وبعضها يخفي خلفه ما نخشى النظر إليه، ومع توالي الخطى، نصبح أكثر حذرًا، أكثر انتقائية، وأكثر قسوة على ما كان يومًا دافئًا!؛ هناك أبواب نغلقها في لحظة، لا لشيء إلا لأننا تعبنا من طرقها عبثًا، وأخرى نغلقها على مهل، كأننا نخيط جرحًا بأصابع مرتجفة، نُراهن على ألا ينفتح ثانية.
في داخلنا غرفٌ كثيرة؛ بعضُها لا ندخله إلا ونحنُ نحملُ ألمًا لا صوتَ له!؛ هناك، نُمارسُ طقوسَ الإغلاقِ بهدوء، نَطوي الرسائلَ، نُطفئ الأنوارَ، ونخرجُ بصمت، وكأننا نعلمُ أن العودةَ ستكونُ انتهاكًا لسلامٍ استعدناه بشقِّ الأنفس. نُغلق البابَ لا لننسى، بل لننجوَ؛ لكنَّ النسيانَ الذي يليه لا يزورُنا كالضيوف، بل يسرقُ المفاتيحَ بهدوء. نخرجُ من اللحظةِ وننسى كيف نعود؛ ربما لأن الرجوعَ يتطلبُ شجاعةً لا نملكها بعدَ الجراح.
وليس الإغلاق دائمًا نابعًا من حسمٍ أو وعي، بل أحيانًا يكون حيلة دفاعية، كأننا نكمم أفواه الذكريات كي لا تُحدثنا كثيرًا، وبعض الأبواب لا نغلقها وحدنا، بل تُغلقها الحياة نيابةً عنا، ثم تتركنا نبحث عن المفاتيح في جيوب مهترئة من الندم.
الأبوابُ ليست خشبًا ومقابضَ فحسب، بل مواقفُ ومشاعرُ وأسماءٌ كانت يومًا تعني لنا أكثرَ مما نعترف!؛ هناك بابٌ أُغلق بعدَ وداعٍ لم يكتمل، وآخرُ أُغلق بصوتٍ عالٍ إثرَ خذلان، وثالثٌ ما زالَ نصفَ مفتوح، لا لشيء إلا لأننا ترددنا في إغلاقه تمامًا، وكأن في داخلهِ ما لم نستطع قولَه، وما لا نحتملُ نسيانَه! والإغلاقُ هنا ليس قسوةً، بل ضربٌ من التضميدِ الذاتي؛ القلبُ حين يتعبُ لا يبحثُ عن زائرين جدد، بل عن عزلةٍ تُشبهُ الحِماية.
الغريب في الأمر أننا لا نكره أحدًا، بل نكره الأثر الذي خلّفه فينا!؛ نغلق الأبواب ليس لأن الآخر لا يستحق، بل لأننا لم نعد نحتمل هذا التواطؤ بين الأمل والخذلان!؛ بعض العلاقات تصبح مثل النوافذ في شتاءٍ طويل، لا تفتح إلا لتدع البرد يعبر، ولا تُغلق إلا بعد أن يُصيبك التيار.
والأدهى من الإغلاقِ نفسِه، أن ننسى المفاتيحَ؛ أن نمضي في الحياةِ كمن لا يتذكرُ موقعَ البابِ أصلًا. هل هو نسيانٌ حقيقي؟ أم هروبٌ متقنٌ من احتمالاتٍ قد تجرُّنا إلى الندم؟ لا نعلم؛ لكننا نُدركُ متأخرين أننا في لحظةِ صفاء، نحتاجُ أن نعود، لا لنفتحَ الباب، بل لنعانقَ الذاتَ التي أغلقته. نبحثُ عن المفاتيح، فنجدُها مفقودةً تحتَ ركامِ محاولاتِ النسيان.
النسيان هنا ليس غيابًا، بل هو شكلٌ من أشكال البقاء؛ هو درع من حرير نرتديه لنتجاوز مشهدًا لا نريد إعادة عرضه. ننسى، لا لأن الذكرى ضعيفة، بل لأننا لو تذكرنا لارتعشت أيدينا على مقابض تلك الأبواب، وترددنا أمام العودة، رغم يقيننا أن الداخل لم يعد كما تركناه!؛ وليس كلُّ من نغلقُ بابنا في وجهِه عدوًا؛ أحيانًا نغلقه لأن البقاءَ يؤلمُ أكثرَ من الغياب، لأن الكلماتِ تتعفنُ في الحلق، ولأن النظراتِ فقدت بريقَها. نغلقه حفاظًا على ما تبقى من احترام، على ما تبقى من أنفسنا.
أحيانًا ننسى المفاتيح عن عمد، وأحيانًا نرميها في غفلة منا في بحر اللاعودة. الإغلاق فنٌّ دقيق، لكنه موجِع؛ كأنك تحاول أن تخيط جرحًا بإبرة من ذهب، والذهب ثقيل على اللحم الطري. لا يريد القلب أن يظل مشرعًا لرياح الأسى، لكنه أيضًا لا يجيد الإغلاق الكامل؛ يترك فجوة صغيرة، تسرب صوتًا أو ذكرى، وربما اسمًا عالقًا في الزاوية المعتمة من الحنين.
لكنَّ المفارقةَ الأعمقَ تكمنُ هنا: بعضُ الأبوابِ حين تُغلقُ تمنحُنا راحة، وأخرى تتركُ خلفَها صدًى لا ينطفئ. نغلقها كمن يضعُ حدًا للفوضى، لكنَّ الفوضى الحقيقيةَ هي في داخلنا، حيثُ تئنُّ الأسئلةُ وتدقُّ مشاعرُ لم تجدْ مخرجًا. في الليلِ، حين ينامُ العالمُ على أكتافِ الظلام، تهمسُ تلك الأبوابُ المغلقةُ في ذاكرةِ الروح، تذكّرنا بأن ما أغلقناه لا ينتهي، بل يتحوّلُ إلى صدى، إلى ظلٍّ يتبعنا.
وفي لحظة ما، نُدرك أننا لا نُغلق الأبواب لحماية أنفسنا فقط، بل لأننا نخجل من اعتراف مؤجل: أنّ بعض المفاتيح كانت خطأً من البداية، أو أن الباب لم يكن لنا أصلًا. نغلق الأبواب أحيانًا لأن صوتها وهي توصد يمنحنا شعورًا بالسيطرة، حتى وإن كان زائفًا.
هناك من يحتفظُ بنسخةٍ للمفتاح، يضعها في درجٍ لا ينساه. وهناك من ينسخُ المفتاحَ في قلبه، ينتظرُ موسمَ الصفحِ أو لحظةَ إدراك، وهناك من لا ينسى، بل يتناسى، ويمضي. فهل النسيانُ رحمة؟ أم خيانةٌ لذاكرةٍ ما زالت تنبض؟ الحقيقةُ أننا لا نغلقُ الأبوابَ دائمًا بسببِ الآخرين، بل أحيانًا لنحميَهم منّا، أو لنحميَ أنفسَنا منهم؛ وفي كلا الحالتين، نخسرُ شيئًا لا نستطيعُ تسميتَه، شيئًا يشبهُ قطعةً من ضوءِنا الداخلي.
لكن هل إغلاق الأبواب يعني النهاية؟ ليس بالضرورة! فبعض الأبواب وُجدت لتُغلق، وبعض المفاتيح لا نحتاجها إلا لطمأنة أنفسنا أننا نستطيع العودة، حتى لو لم نعد نريد ذلك، ربما نضعها تحت وسادتنا، لا لنستخدمها، بل لنحلم بأننا ما زلنا نملك الخيار.
من يملكُ مفاتيحَ ماضيه، يملكُ القدرةَ على فهمِ حاضره، أما من نسي مفاتيحَه، فيعيشُ على حافةِ ذاكرةٍ مبتورة، حيثُ لا تنبتُ أشجارُ المصالحة، بل أعشابٌ يابسةٌ من الأسى القديم. النسيانُ خيارٌ باهظ، ندفعُ ثمنَه على أقساط: فراغٌ في الصدرِ حين نسمعُ لحنًا مألوفًا، أو رجفةٌ في اليدِ حين نمرُّ بشارعٍ مررنا به مع من رحلوا.
ومع الوقت، نتعلم أن لا أحد يخرج من قصة كما دخلها، وأن إغلاق الباب لا يعني بالضرورة أننا أقوياء، بل أننا أرهقنا المحاولة. في عمق كل قرار إغلاق، ظلٌّ من رجاء قديم، وخوفٌ من مرآة نُواجه بها أنفسنا.
لكنَّ الحياةَ، في حكمتها الصامتة، تتركُ لنا دائمًا مساحةً للعودة؛ لا لِنفتحَ الأبوابَ من جديد، بل لنفهمَ لماذا أغلقناها، فالحكمةُ الحقيقيةُ ليست في الإغلاقِ أو النسيان، بل في أن نعرفَ متى نُغلق، ومتى نُبقي المفتاحَ في جيبنا كإمكانيةٍ للغفران. وحدها القلوبُ التي اختبرتْ وجعَ الأبوابِ الموصدةِ تعرفُ أن السَّماءَ لا تمطرُ مفاتيحَ، لكنَّ الوقتَ قد يُعلّمنا كيف نصنعُ أخرى من رمادِ الذكريات.
وفي خضم كل هذا، تظهر تلك الفكرة العميقة: الفرق بين مَن يعيشون ومَن يموتون داخليًا هو ذلك الخيط الرفيع بين الإغلاق كضرورة، والنسيان كاستسلام. كثيرون يغلقون، لكن القليل فقط يحتفظون بالمفتاح لاستخدامه بوعي لا بضعف.
لا بأس إن تركت الباب موصدًا، بشرط أن تعرف في أعماقك أنك لم تعد تريده مفتوحًا؛ فتذكر أن بعض الأبواب لا تحتاج إلى مفاتيح لتُفتح، بل إلى قلبٍ يعرف أن ما وراءها لم يعد كما كان، أو كما تخيلناه.
وفي النهاية، لا تندم على باب أغلقته ذات وعي، لكن تذكّر دائمًا: حتى أكثر الأبواب إحكامًا لا يُسكت تمامًا صوت ما خلفه... إنما نحن من نتعلم، بمرور الوقت، أن لا نصغي كثيرًا، لأن السلام لا يعني أن تُغلق كل الأبواب، بل أن تعرف أيها يستحق أن يُترك خلفك دون أن تلتفت.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق