السبت، 17 مايو 2025

الصمتُ والكلمة: رحلةٌ بينَ الغيابِ والحضور!

 
الصمتُ والكلمة: رحلةٌ بينَ الغيابِ والحضور!

عندما يُرخي الصمتُ سدولَه، لا يأتي بلونٍ واحدٍ ولا نكهةٍ واحدةٍ؛ فأحيانًا يكون كستارةٍ تُسدل على مشهدٍ نريد استكماله، لكنّ الكلمات تهرب منّا كالفراشاتِ الخائفة، وأحيانًا يهبط كصخرةٍ على الصدر، نختنق تحتها دون أن نجد صوتًا يُنقذنا.
وفي لحظاتٍ أخرى، يصير لغةً خفيّةً تُعلنُ ما لا يُقال: احتجاجًا صامتًا أو انسحابًا هادئًا من ساحة المعركة. لكنّ أخطرَ وجوهِه ذلك الذي يتركك حائرًا: أهو غضبٌ أم حزنٌ؟ أهي خيبةٌ أم مجرّدُ رحيلٍ داخليٍّ بلا وداع؟

وفي خضمّ هذا الصمت، لم أتوقّف عن الإيمان بصواب موقفي؛ فالحقُّ ليس كلمةً تُقالُ ثمّ تتبخّر، بل هو شجرةٌ تنمو في أعماق الروح، جذرًا بعد جذر. قد يُغلق البابُ عليه مؤقتًا، لكنّه لا يختفي، كشمعةٍ تتلألأ في غرفةٍ مظلمةٍ رغم كلّ شيء! لكنّ الألمَ الحقيقيّ ليس في الصمت نفسه، بل في تلك الهوّةِ السحيقة بين الكلمةِ والفعل؛ فكم من وعودٍ تُنسجُ بشفاهٍ مبتسمةٍ، ثمّ تتحوّل إلى قبضةٍ مُطبقةٍ على الفراغ، كأنّها خيانةٌ مُقنَّعة بثوبِ الصمت!

وهنا تطفو الخيبةُ، لا كمجردِ حزنٍ عابرٍ، بل كطعنةٍ تنغرسُ في الكرامةِ والثقة! فما أقسى أن تبني جسرًا من الأمل، ثمّ تجدُ الطرفَ الآخرَ قد هدمَ أساسَه بصمتِه! لكنّ الحياةَ لا تكفُّ عن اختبارنا، وكأنّها تقول: "هل أنت مستعدٌ لأن تحملَ عبءَ الحقيقة وحدك؟"

وحين يأتي النصحُ، لا أتلقّاه كسيلٍ من الكلمات الجوفاء، بل أضعهُ في بوتقةِ العقلِ والقلب معًا؛ فهناك نصيحةٌ تشبهُ البلّور النقي، تلمعُ بنقاءٍ فتحملها بين ضلوعك ككنزٍ ثمين، وأخرى مشوبةٌ بالشكّ، تُلقى كالحجارةِ في الماء، فتثيرُ الوحلَ ولا تُنيرُ الطريق. وليس كلُّ صامتٍ مذنبًا ولا كلُّ ناصحٍ مخلصًا؛ فبعضُ النصائحِ تُرهقُ الروحَ لأنّها تُقالُ لا لإصلاحِ القلب، بل لفرضِ السيطرة! ورغم ذلك، ما زال قلبي يتّسعُ لكلّ يدٍ تمتدُّ بخير، لكنّ عقلي يحملُ مطرقةَ المساءلة: "من أينَ أتيتَ بهذه الحكمة؟ ولماذا الآن؟"

ستأتي الأيامُ كالسيل العاتي، لا تُبالِي بمن يقفُ في طريقها؛ ستحملُ في جعبتها تحدّياتٍ كالحجارةِ الثقيلة، وقراراتٍ مرةً كالدواء! لكنّي أرنو إليها كفجرٍ جديد، فرصةٍ لتحريرِ الكلماتِ التي تعفّنت في حلقومِ الصمت، كلماتٍ صارت كالأوراقِ المبلّلة تحت المطر، لا تُصلحُ للقراءةِ ولا للاشتعال! سأواجهُ العواصفَ كما تواجهُ الشجرةُ الرياحَ العاتية: أنحني لكنّي لا أنكسر؛ فما يحمله صدري ليس شظيّةً فحسب، بل بذرةٌ من يقينٍ لن تموت.

سأظلُّ أبحِرُ في هذا البحرِ الهائج، حتّى لو تكسّر شراعي وحتى لو تلاطمت أمواجُ الشكِّ حولي! سأرفعُ رايةَ الحقِّ بيدٍ، وأمسكُ مجدافَ الإرادةِ باليدِ الأخرى. لستُ وحيدًا لأنّي اخترتُ الوحدة، بل لأنّي لم أجدْ قلبًا يشاركني الإبحارَ دونَ شروط! وإنْ كان الثمنُ أن أكونَ آخرَ من يقفُ وآخرَ من يتكلّم، فليكن؛ فالشاطئُ الذي أنظرُ إليه ليس وهمًا، بل هو إثباتٌ أنَّ الصمتَ لم يقتلْ كلمتي، وأنّي — رغم كلّ شيء — صادقٌ مع نفسي.

هكذا تُكتَبُ الحياةُ: بأحرفٍ من صمتٍ وكلام، وبسطورٍ من جراحٍ وإيمان؛ فليكنْ صمتُنا صوتًا للحكمة، وكلامُنا نورًا للحقّ.

جهاد غريب
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

  رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة! في زحمة الحياة، حيث تتهاوى الأحلام كأوراق الخريف على صخور الواقع القاسية، نجد أنفسنا نمدّ أيادينا إلى ا...