رقصة المجاملات بين الأصالة والتصنع!
في عالمٍ تكثر فيه الأقنعة الاجتماعية، تتحوّل الابتسامات أحيانًا إلى عملاتٍ نتداولها في تعاملاتنا اليومية؛ نُجامل كمن يزرع بذورًا في تربةٍ غير خصبة، قد تنمو فيها العلاقات، لكنها نادرًا ما تُثمر ثقةً حقيقية. المجاملة الصادقة لا تحتاج إلى تبرير، أما تلك التي نُخرجها من مخزن العادات الاجتماعية دون حاجةٍ حقيقية، فقد تتحوّل إلى عادةٍ تفرغ الكلمات من معناها. ولعلّ ما يؤكد ذلك أن الدماغ يميّز بسهولة بين الكلمات الصادقة وتلك المنطوقة بدافع الواجب الاجتماعي.
وليست كل ابتسامةٍ زهرةً تتفتح في حديقة الروح؛ فبعضها مجرد حركة عضلية تفتقر إلى الدفء. لغة الجسد تمثّل 55% من تأثير التواصل، بينما تبقى الكلمات في المرتبة الثانية. حين تُجامل من لا يحتاج إلى مجاملتك، فإنك لا تقدم له هديةً، بقدر ما تقدم له لغزًا يحاول فك شفرته. وحتى الابتسامة الصادقة قد تفقد بريقها إذا قُدِّمت في غير موضعها، كعملةٍ حقيقية تُقلَّب بين الأصابع بشك.
ومن هنا تبدأ المشكلة الحقيقية عندما نُفرط في استخدام المجاملات؛ فكلما بالغنا فيها، خسرنا جزءًا من مصداقيتنا. الإفراط في المجاملة يُضعف الهوية الشخصية، ويجعل المواقف غامضة لمن حولك، ويصبح صوتك كصدى بعيدٍ لا يعرف أحد مدى صدقه، كالطائر الذي يُكرر الألحان دون أن يفهم معانيها. أحيانًا نجد أنفسنا نردد العبارات الجاهزة دون اكتراث. المشكلة ليست في المجاملة ذاتها، بل في تحوّلها إلى ردّ فعلٍ آلي يشبه "الوجبة السريعة": لذيذة المذاق، لكنها تفتقر إلى القيمة الغذائية.
غير أن الجانب المضيء يتمثّل في إمكانية إيجاد توازنٍ داخلي. فالوضوح اللطيف هو الفن الحقيقي: أن تعرف متى تصمت، ومتى تتكلم، ومتى تبتسم لأن القلب يريد، لا لأن الموقف يتطلب. تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الأكثر صدقًا يتمتعون بعلاقاتٍ أعمق وأقل توترًا.
هذا التوازن يشبه "فن البونساي" الذي يجمع بين التقليم والنمو، بين الشكل والجوهر. وحين تكون صادقًا مع نفسك أولًا، تُعلِّم الآخرين ألا يتوقعوا منك سوى الحقيقة الممزوجة باللباقة. الفرق بين المجاملة واللطف الحقيقي كالفرق بين "الوردة الاصطناعية" و"الوردة الطبيعية": كلتاهما جميلة، لكن واحدة فقط تنمو وتتغير وتتفاعل مع الحياة.
ومع مرور الوقت، غالبًا ما نكتشف أننا أفرطنا في المجاملات، كمن يبحث عن بوصلته بعد أن يكون قد سار في الطريق الخطأ. وقد تكون المجاملة أحيانًا كالدواء الذي يُستخدم عند الحاجة، لكنها تتحوّل إلى عادةٍ ضارة عندما تصبح أسلوب حياة. لا بأس بمجاملةٍ تصدر عن طيب خاطر، لكن المشكلة تبدأ عندما تصبح اللغة الوحيدة التي نتحدث بها. التكرار العاطفي للمجاملات يبرمج الدماغ على الاستجابة السطحية بدلًا من التفاعل العميق.
وهكذا، يتضح في النهاية أن الحياة ليست معادلةً صعبة بين الصدق المطلق والمجاملة الدائمة؛ كن كالشجرة التي تميل مع الرياح لكنها تبقى ثابتة الجذور، واضحًا في تعابيرك، لكن لطيفًا في أسلوبك. فأجمل ما في الإنسان ليس صراحته الجافة ولا مجاملته الزائدة، بل تلك المساحة الراقية التي تلتقي فيها الأصالة باللباقة، في رقصةٍ متناغمة تخلق توازنًا جميلًا بين قول الحقيقة وحفظ المشاعر.
ولهذا، أؤمن أن أجمل الحوارات التي نخوضها في الحياة، ليست تلك التي نُجامل فيها، بل تلك التي نُحسن فيها الصدق دون أن نجرح، ونُهدي فيها الحقيقة كما تُهدى زهرة، برفق ووعي ومحبة.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق