السبت، 5 أبريل 2025

كلمات.. على حافة النية!


كلمات.. على حافة النية!

حين يتكلم الناس، لا يتحدثون دائمًا بما يريدون قوله، بل بما يستطيعون احتماله!، وبين المرايا التي تعكس أكثر مما نتصور، والأقنعة التي تُخفينا أكثر مما تحمينا، تمضي اللغة كتيار خفي، حاملة وجوهًا كثيرة تحت السطح!، قد تبدأ جملة عابرة، وتنتهي بعاصفة داخلية لا تُرى، وقد يكون في "كيف قيلت" أكثر مما في "ما قيل". فهل حقًا نُدير حواراتنا بالعقل، أم نحركها بمرآة مشاعرنا؟ وهل الكلمات التي نُلقيها نحو الآخرين هي سهام موجهة، أم نداءات نبحث بها عن أنفسنا في ملامحهم؟

كثيرًا ما يتردد صدى الجُمل التي نسمعها كأنها طُرحت أولًا على أنفسنا قبل أن تُوجَّه إلينا!، فكم من مرة شعرتَ أن ما قيل لك، قيل في الحقيقة عن قائله؟ المرآة لا تخون!، هي فقط تُظهر الحقيقة كما هي، دون تزويق، ودون مواربة!، تقول لك: هذا أنت، مهما حاولت أن تكون غير ذلك!، واللغة، حين تأتي من قلبٍ مرتبك، تُصبح مرآة لا تُرحم!، تراك كما أنت، وتُريك نفسك كما لا تُحب أن تراها، ومن أغرب مفارقات المرايا في الكلام، أن تُستخدم ضد الآخرين، فتنكسر أولًا على صدر من حملها.

قد يقول لك أحدهم: "أراك تتحدث وأنت تضع قناعًا!"، فتبتسم، وربما تغضب، أو ربما تغرق في صمتٍ طويل، ولكن، مَن الذي يضع القناع فعلًا؟ وهل القناع دومًا نفاق؟ أليس أحيانًا وسيلة للنجاة؟ أحيانًا نرتديه خجلًا، وأحيانًا خوفًا، وأحيانًا بدافع الغريزة حين نُجبر على الظهور بأقل ما نشعر وأكثر مما نتحمل، لكن السؤال المخيف يظهر حين ننسى أننا نرتديه.. وحين يتحول القناع إلى وجه، والدرع إلى جلدٍ جديدٍ لا نعرف أنفسنا دونه.

وفي خضمّ ذلك، تظهر جُملٌ منمقة، تتراقص بين النور والظل، كأنها ترقص على حبل النوايا!، كأن يقول أحدهم: "الحمد لله على نعمة التخطي"، فتقف أمامها متأملًا، لا تعرف أهي دعاء أم لغم لغوي؟ قد تكون شكرًا حقيقيًا لقلب نجا من جرح، وقد تكون سخرية مريرة ممن لم يتجاوز شيئًا سوى الاعتراف بالخذلان!، اللغة هنا لا تخطئ، لكنها تنتظر القارئ المناسب، فمن يقرأ من موضع الألم يرى السخرية، ومن يقرأ من موضع الشكر يرى النعمة، وبين الاثنين تكمن عبقرية التعبير وغموض القصد.

التخطي.. تلك الكلمة التي تُشبه جسورًا ضبابية، لا تدري إن كنتَ تعبر بها فوق نهر من الذكريات، أم تُسقط بها كل من تركتهم خلفك!، أهو نعمة؟ نعم، حين يأتي كعفوٍ كريم، وكصفح لا ينتظر المقابل!، حين تتجاوزه لأنك سامحت، لا لأنك تناسيت، أما إن كان التخطي مجرد إغماض عين عن الحقيقة، أو تجاهل للضرر، أو تظاهر بالتماسك، فهو حينها ليس تخطيًا، بل سقوطٌ ناعمٌ في هاوية أخرى لا اسم لها.

ولأن اللغة تمضي مثل نهرٍ لا يمكن لمسه مرتين، فإننا كثيرًا ما نحتاج إلى قارئ حقيقي، قارئ لا يبحث عن المعنى فقط، بل عن الشعور وراءه!، قارئ يسأل نفسه: هل هذه الكلمة كانت مرآةً صافية، أم قناعًا لامعًا؟ وهل خرجت من فمٍ شاكرٍ أم من عقلٍ غاضب؟ وهل كانت الجملة جسرًا نحو السلام، أم طريقًا مختصرًا للانتقام غير المعلن؟

نحن لا نكتب الكلمات فقط، بل نختارها كما نختار ملامحنا أمام الآخرين!، نُجمّلها، ونُعدّلها، ونغلفها بما نظنه ألطف، أو أذكى، أو أكثر دهاءً، لكن القلوب وحدها، هي التي تفك شفراتها، ولذلك، فإن جمال اللغة لا يكمن في اتقانها، بل في صدقها!، أن تقول ما تعنيه، وتعي ما تقوله، وتُدرك أن بعض العبارات تُشبه السماء: يتغير لونها بتغير زاوية النظر.

في النهاية، نحن لسنا سوى مرآة لما نُخفيه، ولسانًا لما نحمله!، وكل كلمة نقولها هي إشارة خفية عمّا يدور في أرواحنا، فلنختر كلماتنا كما نختار مصيرنا، بحكمة، لا بهروب، وبقلبٍ حيّ، لا بقناعٍ ميت، فما أجمل أن تكون مرايانا نقية، وأقنعتنا مؤقتة، وتخطيّنا نابعًا من نورٍ لا يُطفئه الحقد، وشكرنا طالعًا من روحٍ تعرف كيف تبتهج حتى وسط الغبار!

جهاد غريب
أبريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قصيدة تمشي على الأرض!

  قصيدة تمشي على الأرض! ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخط...