الجمعة، 4 أبريل 2025

القلعة الداخلية: رحلةٌ بين الشوك والندى!

 

القلعة الداخلية: رحلةٌ بين الشوك والندى!

كانت يداه ترتجفان حين أدرك أخيراً أنه لم يعد قادراً على حمل أثقال العالم فوق صدره، وفي تلك الليلة التي انكسر فيها للمرة الأخيرة، لم يبكِ على ما فقده، بل على السنين التي أمضاها كحارسٍ للآخرين، وكسندٍ لا يكلّ، وهو يحمل سقفاً ليس سقفه!، وكشجرةٍ تُظلّل الجميع بينما جذورها تتعفّن في صمت!، في تلك اللحظة الحاسمة، بين دموع لم يعرف لها معنى، تحوّل الألم إلى مرآة، فرأى نفسه لأول مرة: كائناً يستحق أن يحيا، لا أن يُضحّى به!، وانكسر القفل الذي ظلّ يحبس به روحه خلف أسوار اللااستحقاق.

درع الروح ليس درعاً من حديد، بل هو زئير الروح عندما ترفض أن تُؤكل بهدوء، وهو رقصةٌ مع الذات في غابةٍ من الأسئلة، ذلك الصمت الذي يسبق العاصفة، والغضب الذي يلي الخداع!، كم من مرةٍ مررنا بجانب أنفسنا كغرباء؟ وكم مرةً أخبرنا ضميرنا الجريح: كفى، ثم مضينا نبحث عن شظايانا في جيوب الآخرين؟

كلّنا نحمل جروحاً تشبه خرائط مدن غريبة، فهناك الألم الذي يتسلّل كالضباب إلى مفاصل الروح، والعلاقات التي تتحوّل إلى سجونٍ بلا قضبان!، بعض الجروح تُظهر أماكنَ يجب ألا نعود إليها أبداً، وبعضها يحدّد نقاطَ اللاعودة.

في سوق المشاعر، حيث تُباع الذكريات بأرخص الأثمان، نتعلم أن الحب ليس عملةً ندفعها ثمناً للبقاء، فبعض الناس يأتون كالمطر، يروون كلّ شيءٍ وينصرفون، وبعضهم كالطين، يلتصقون حتى يخنقوا الجذور!، الفرق بينهما؟ المطر لا يطلب منك أن تموت ليعيش.

أقسى ما في الرحلة أن تكتشف أنك غريبٌ عن ذاتك، وأن ترى نفسك عبر عيون من لا يرونك إلا عندما تكون مفيداً، لكنّ في هذا الاكتشاف شرارة التغيير، فالصحة النفسية ليست حديقةً خاليةً من الأعشاب الضارة، بل هي أرضٌ تتعلم فيها كيف تميّز الزهرة من الشوك، وعندما تتعلم أن تقف أمام المرآة وتقول: هذا أنا.. كاملاً، حتى مع كلّ ما ينقصني، تكون قد وضعت حجر الأساس لقلعتك الداخلية.

التفكير النقدي هنا ليس مجرّد تحليل، بل هو فنّ رؤية الأشياء كما هي، وهو أن تسأل: هل هذا يؤلمني لأنّه جارح، أم لأنّه يلمس جرحاً قديماً؟ وهو أن تتعلم أن تحمل سكيناً تقطع به الحبال التي تربطك بأشباح الماضي، أما التواصل الفعال، فهو أن تخرج الكلمات من كهف الحلق إلى فضاء الأذن، صادقةً كندى الصباح، حادةً كالسيف حين يجب أن تكون، وأن تقول: هذا أنا، وهذا ما لا أستطيع احتماله.

والاستقلال؟! إنه ذلك الطفل الذي يرفض أن يُربط بحبلٍ إلى ساريةٍ متآكلة، وهو قرارك بأن تبني مقياسك الخاص للقيم، وأن ترفض أن تكون نسخةً من توقعات الآخرين، وهو أن تدرك أن بعض الأبواب تُغلق ليس لأنها نهايات، بل لأنّك تحتاج إلى يديك حرّتين لفتح أبوابٍ أخرى.

ابدأ بالحدود، كي تبني معاييرك!، حدّدها كالنجوم التي تُرشد السفن، لا كالجدران التي تخنق النور، ثم انظر إلى العلاقات: أيّها يشبه الجذور، وأيّها يشبه الأغصان التي تنكسر عند أول عاصفة؟ تعلّم أن تحمل مقصّاً في جيبك، فبعض القصّ يُنبت.

أما المواقف الصعبة، فتذكّر: حتى الألم يصنع منك شاعراً إذا لم يقتلك!، ولا تهرب من العاصفة، لكنّ لا تنسَ أن تحمل مظلّتك، وتعلّم أن ترى في المرآة وجه المحارب، لا الضحية، وأن تسمع في صمتك صوت القوة، لا الوحدة.

وفي العمق، كل هذا يرجع إلى الحبّ!، ليس الحبّ الذي يُشترى بالتنازلات، بل ذلك الذي يبدأ من الداخل كبذرةٍ لا تُرى، ثم يصير شجرةً تُثمر ثقةً، واحتراماً، واستحقاقاً، الحبّ الذي يجعل من الاستقامة اختياراً يومياً، لا شعاراً، الحبّ الذي يحوّل التطوّر الشخصي إلى رحلةٍ لا إلى محطّة.

أخيرًا، الحماية الذاتية ليست نهاية المطاف، بل هي البداية، بداية أن تعيش كما لو أنّك تستحقّ الحياة.

جهاد غريب
أبريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قصيدة تمشي على الأرض!

  قصيدة تمشي على الأرض! ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخط...