الخميس، 3 أبريل 2025

سفر الروح في متاهات الألم!


كيف يغوص قلبٌ وحيد في تلك اللُّجج السوداء من الألم، وكيف تظل الروحُ صامدةً تحت وطأة هذا العذاب الأبدي؟ أسئلةٌ تثور كالأمواج الهائجة كلما هزّتنا عواصفُ الحياة، وكلما تعمّقت الجراحُ في أغوار النفس كسكاكينَ تنتزف الجراح!، فالإنسان، في رحلته الوجودية، يحمل بين ضلوعه عالماً كاملاً من التناقضات: شمعة أملٍ تتأرجح في مهبّ اليأس، وقوةً عاتيةً تختبئ خلف قناع الضعف، وإيمانًا بالحياة يرقص على حافة الهاوية، حيث يلوح شبح الاستسلام في الظلام.

بعد كل هذا التشظي والتمزق، أين يختفي "الإنسان" بداخلنا؟ وأين تذهب تلك الفطرة الأولى من البراءة والسلام التي ولدنا بها؟ يبدو أننا، مع كل صدمة، ومع كل خيبة، ندفن جزءاً من أنفسنا في مكان ما، حتى لم نعد نعرف من نحن!، ففي أعماق كل منا متاهة مظلمة لا نهاية لها، متاهة تزداد تعقيداً كلما طال بنا الزمن في أرض الغربة الوجودية. 

وكلما امتد بنا سفر التيه، ازدادت الجراحُ عمقاً، وكأنها أنهارٌ من الدماء لا تعرفُ التوقُّف عن النزف!، أما ذكرياتنا البائسة، فقد صارت مذبحاً مقدساً نذبحُ عليه أرواحنا كل فجرٍ جديد، قطرةً قطرة، وكأن الألمَ قد تحوَّل إلى طقسٍ يوميٍّ نؤديه بخشوع المُذعِن لمصيره.

نعم، الحياةُ في أقسى لحظاتها لا تترك لنا خياراً سوى أن ننزفَ في صمتٍ مطبق، حاملين أوجاعنا كأوزارٍ مقدسةٍ، أو سلاسلَ من ذهبٍ ساخنٍ تُوثقُنا إلى جذور آلامنا!، فكيف نتحرر منها، ونحن قد صرنا لا نعرفُ أنفسنا بدونها؟

ثم تأتي تلك اللحظة المصيرية، حين ينفطر الصمتُ كزجاجٍ مهشّم، وتنفلقُ أعماقنا بصرخةٍ كونية تخرج من أغوار الوجدان كالبركان الثائر! إنه "المارد الكامن" فينا، ذلك الشرارة الإلهية التي ترفضُ الموت، تنهضُ من تحت الرماد لتلوح بقبضتها في وجه قسوة الوجود وتصرخ بكلمة الحق: "كفى!"

هذا المارد.. لا يبحث عن شمعة عقلٍ فحسب، بل يحفر بأظافره في جدران الظلام بحثاً عن شمسٍ جديدة، لأن القلوبَ قد تحوّلت إلى رمادٍ منذُ عصور، ولم يبقَ لنا إلا شراع العقلِ الهشّ لنبحر به في هذا البحر المُظلم، علّنا نجدُ جزيرةَ الخلاص الأخيرة.

وهكذا تتحول الحياة إلى حكايةٍ مبعثرة الأوراق، وروايةً بلا مغزى تُروى بأنينٍ وبصوتٍ مبحوح!، أو سرداً متقطعاً من معاناة الأسئلة التي تبقى دون إجابات!، ثم نصير ظلالاً شاحبة تتراقص على جدار الزمن المتصدع!، نلهث خلف سرابٍ يُعيد لنا دفء إنسانيتنا الضائعة، فلا نجد سوى دوامة الألم التي تدور بنا كفراشاتٍ محنطة في قارورة الزمن.

فهل من خلاص؟ وهل من مخرجٍ من هذه المتاهة التي صارت جزءاً من أرواحنا؟ أم أننا - في النهاية - مجرد حروفٍ متعثرة في قصة الكون العظيمة، حروف تبحث عن نقطة توقف، وعن معنى، وعن لمسة نور في هذا الظلام الدامس؟

ربما تكمن الإجابة في أن نتعلم فنَّ حمل الجراح كحُليٍّ ثمينةٍ لا كأغلالٍ ثقيلة!، وأن نحوِّلَ ندوبنا إلى شهادات وجودٍ لا شواهدَ موت، فالأملُ الوحيدُ ليس في الوصول، بل في الاستمرارِ ذاته: في كلِّ خطوةٍ نخطوها ونحنُ نُجرُّ أذيالَ الظلال خلفنا، وفي كلِّ نفسٍ نستنشقهُ رغمَ عَبَقِ اليأس.

إنها الرحلةُ التي تصنعُ المعنى، لا الوجهة. فحينَ ينطفئُ كلُّ نورٍ خارجيٍّ، نكتشفُ أنَّ في صميمِ عتمتنا شمعةً لا تُطفأ!، هي إرادةَ الحياةِ التي ترفضُ أن تنحني، حتى لو لم يبقَ منها سوى ذرَّاتٍ متوهجةٍ في فضاءِ الوجود.

جهاد غريب
ابريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!

  حين يثور الشلال: رسالة إلى القلب الحائر!   لا تظنّ أنَّ الشلالَ - ذلك المُتجدِّدُ بأعجوبةِ الخلق - لا يعرفُ الغضبَ!، إنَّ الماءَ الذي ...