الأطلال: حين تصبح الذكريات وطنًا!
في زوايا الذاكرة، حيث لا يُرى إلا بالقلب، تقبع الأطلال كشواهد حية على ما مرَّ بنا!، ليست مجرد ذكريات تُسرد ثم تُنسى، بل هي ميراث اللحظات، تتركه الأيام كرسائل مختومة برائحة الأمكنة وهمسات الأشخاص، إنها الوشم الذي لا يزول، والخيط الرفيع الذي يخيط ماضينا بحاضرنا، ثم يرمي طرفه نحو المستقبل كجسرٍ من نور.
كم مرة وقفتَ في مكانٍ عابقٍ بالذكريات، فخُيل إليك أن الجدران تُناجيك، والأرض تُحدثك بلغةٍ لا يفهمها إلا قلبك؟ هنا، حيث تتحول الحجارة إلى كلمات، والفراغات إلى حكايات، تصبح الأطلال شاهدًا حيًا على أننا كنا هنا يومًا، أحببنا، وتألمنا، وحلمنا!، إنها ليس غيابًا، بل هي طريقة أخرى للوجود، كالنجوم التي تظل تُرسل ضوءها إلينا حتى بعد انفجارها.
وتمر السنوات، لكن الأطلال تظل ذلك الخيط السري الذي يربط بين كل ما فات وكل ما هو آت!، قد تكون نغمة موسيقية علقت في الذهن، أو رائحة قهوة كانت تُحضر بأيدي لم تعد بيننا، أو لمسة خفية تجعل الزمن ينثني على نفسه، فيختلط الماضي بالحاضر، ويصبح الغائب حاضراً من جديد.
الأطلال ليست مجرد ذكريات نسترجعها، بل هي لحظات نعيد عيشها كلما ضاق بنا الحاضر، وهي ذلك الشعور الذي يبقى معك بعد أن يمر كل شيء، ليذكرك بالأماكن والأشخاص واللحظات التي صاغت جزءًا منك!، فحين تمرُّ بشارعٍ عرفته يومًا، أو تلمس غرضًا كان لشخصٍ غاب، فأنت لا تستحضر الماضي، بل تُحييه من جديد.
كثيرًا، ما نسأل أنفسنا: ماذا نترك وراءنا حين نغيب؟ ربما لا نملك إلا ذاكرتنا، إذًا الأطلال هي الكنز الذي نزرعه في الأرض ليقطفه من يأتي بعدنا!، قد يكون بيتًا مهجورًا، أو صورة قديمة، أو كلمة محفورة على جدار، أو حتى صمتًا مُحمَّلًا بدلالات، ذلك الصمت الثقيل الذي يحمل في طياته كل ما لم يُقال.
نحن نكتب قصتنا على وجه الزمن، ثم نمضي، لكن الأطلال تبقى كبصمة روح تُخبر الأجيال: عاش هنا أناسٌ ضحكوا، وبكوا، وأحبوا، وحملوا قلوبهم بين أيديهم، وزرعوها في هذه الأرض!، الأطلال ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل وصية ورسالة نبعثها إلى المستقبل.
في لحظات الوحدة، تصبح الأطلال ذلك الرفيق الذي لا يغادر، وهي الظل الذي يمشي خلفك في شمس الظهيرة، والصوت الذي يهمس في أذنك عندما يسكن الليل، ويخيم السكوت!
قد تأتيك عبر نسمة هواء تحمل رائحة تعرفها، أو عبر طريقٍ مررت به ذات يوم ولم تنسه!، إنها شكل من أشكال الخلود، ودليل على أن بعض الأشياء لا تموت، بل تتنكر في أشياء أخرى كي تظل معنا.
الأطلال ليست شيئًا نراه بأعيننا فقط، بل نشعر به كدفءٍ خفي، وكضوء قمرٍ يُنير درباً نسيناه، لكنه لم ينسنا!، وهي الجزء منا الذي يرفض الرحيل، والذي يهمس للوجود: سنظل هنا، حتى لو كنا في أي مكان آخر!
في النهاية، لسنا نحن من نصنع الذكريات فقط، بل الذكريات هي التي تصنعنا، وتجعل من أطلالنا وطناً نعود إليه كلما ضاقت بنا الدنيا.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق