حين يصنع الداخل نوره: من دوائر العتمة إلى إشراقة الذات!
نمرّ جميعاً بلحظاتٍ تُحاط فيها أرواحنا بهالاتٍ كثيفة من الطاقة السلبية، كضبابٍ كثيف يُخفي نورنا الداخلي ويُطفئ شموع الأمل. تُثقل هذه الهالات أرواحنا وتُعيق مسيرتنا نحو السلام الداخلي والراحة النفسية، لكن هل هناك سبيل للتخلص من هذا العبء؟ وهل يمكننا استبدال هذا الظلام بضياءٍ ينير دروبنا ويُجدّد أرواحنا؟
ورغم كل هذا العتم، تظل في الروح بقعة ضوء تنتظر لحظة الولادة، فهناك، في أعماق التعب، تتشكّل بدايات لا نعرف كيف بدأت، لكنها تغيّر كل شيء. ربما لا نحتاج أكثر من صدعٍ صغير في جدار اليأس... ليعبر منه النور دون استئذان.
ومع كل تلك التراكمات المعتمة، لا بدّ من لحظةٍ حاسمة... لحظة ننتفض فيها من الداخل، ونكسر قيود الظلام، باحثين عن ضوءٍ نصنعه بأنفسنا.
لا بدّ من تحطيم تلك الأغلفة الثقيلة من السلبية التي تلتفّ حولنا كما يلتفّ الضباب حول مدينة نائمة، فلا نرى نورنا الداخلي. لا خلاص إلا بإزاحتها، ولا نجاة إلا بتمزيق حُجُبها التي تُثقل الروح وتُطفئ شموع الأمل. إنها أشبه بسلاسل غير مرئية تُقيّدنا وتمنعنا من التحليق.
علينا أن نستبدلها بأطواقٍ أخرى مضيئة، تطوِّقنا لا لتقيّدنا، بل لتحتضننا وتمنحنا دفئًا من الداخل، كما لو أن الحياة ذاتها تمدُّ لنا يدًا خفية وتهمس: "هنا بداية جديدة".
هذه الهالات الإيجابية ليست مجرد شعورٍ عابر، بل هي ممرٌّ سريّ إلى انتعاش القلب، وجسرٌ خفيف نعبر عليه نحو راحة البال. إنها طاقة تتفتح بها الزهور في داخلنا، وتخضرّ بها أراضينا اليابسة، وتعود بها الطمأنينة إلى عروقنا النابضة بالتعب.
حين نستبدل السواد بالنور، واليأس بالرجاء، تصبح الأحلام أقرب، أكثر ليونة، وأكثر استعدادًا لأن تتحقّق. كأننا فجأةً في حقلٍ من الإمكانيات اللامحدودة؛ كل زهرةٍ فيه حلمٌ ترويه أمنية نائمة، وكل نسمةٍ تلمّح لبداية لا تزال تتشكّل في الخفاء.
لكن كيف نصنع هذا الضياء؟ وكيف تُبنى تلك الطاقة المضيئة التي تغيّر مسارنا من الداخل؟ هذا النور الذي نبحث عنه لا يأتي من الخارج، بل يولد فينا، في مساحةٍ صغيرة بين الفكرة والإرادة، بين الألم والوعي.
إن الإشراق الداخلي لا يُستعار، ولا يُهدى، ولا ينمو في الفراغ؛ فهذا النور الحميم يُزرع عميقًا في التربة اليومية لوعينا. إنها نتيجة خيارٍ يوميٍّ واعٍ، ومقاومةٍ صامتة للتحديات، وإيمانٍ صغير يكبر في قلبك رغم كل شيء.
الضوء لا يهبط فجأةً كمعجزة، بل يتسرّب شيئًا فشيئًا من الشقوق الصغيرة، من تفاصيل قد نتجاهلها في زحام الحياة: ابتسامة رغم التعب، كلمةٌ طيّبة تقع في مكانها، وتُقال في وقتها، بل قد تُصادف لحظة عطش، أو حتى صمتٌ نتصالح فيه مع أنفسنا دون لوم.
الهالة الجديدة تُبنى كقصيدةٍ فريدة، لا تُكتب دفعةً واحدة، بل تتشكّل ببطءٍ وتأنٍّ. تحتاج إلى نبضك الخاص، إلى سهراتك الطويلة التي تحاول فيها فهم ذاتك لا العالم الخارجي، إلى دموعٍ قد لا تشرح سببها، لكنها تغسل شيئًا خفيًّا في داخلك وتنقّيه.
حين نستبدل أفكارنا السلبية لا مجرّد مشاعرنا، وحين ننفض الغبار عن نوافذنا الداخلية التي طالما حجبت الرؤية، سنُدرك أن الضوء كان موجودًا دائمًا؛ فقط كان يحتاج إلى إذننا كي يدخل ويملأ وجودنا.
وعندما يبدأ هذا الضوء بالتسرّب إلى أعماقنا، لا يكتفي بترميم ما انكسر، بل يُعيد خلقنا من جديد. لا يعيدنا كما كنا، بل يخلقنا بوجهٍ يشبهنا أكثر، بروحٍ أنقى، وبقلبٍ لم يعُد ينتظر من الخارج ما عرف أخيرًا كيف يصنعه في الداخل.
في النهاية، الأمر ليس فقط عن التخلّص من السلبية، بل عن اختيار أن نكون النور في عالمٍ يُصرّ أحيانًا على الظلمة. إنه قرارٌ يوميّ بأن نُضيء لأنفسنا وللآخرين، وأن نتحمّل مسؤولية سعادتنا وطمأنينتنا.
إنها رحلة تحوّلٍ عميقة، تبدأ من نقطةٍ صغيرة في أعماق الروح، لتتفتّح كزهرةٍ في حقلٍ من الإمكانيات اللامتناهية. لكن ماذا بعد أن يتسلل الضوء؟ هل يكفي أن نشعر به؟ أم أننا مدعوون للوقوف والتأمل؟ للصدق مع ذواتنا؟
وأنتَ... ألم تتعب من الدوران في دوائر لا ترى لها آخرًا؟ من حملِ أوزارٍ لا تخصك، وأفكارٍ تسكن رأسك وكأنها أوامر لا تُرد؟ لقد آن لك أن تتوقّف لحظة... أن تضع حقيبة الظنون جانبًا، وتنظر إلى المرآة لا لتتأكد أنك بخير، بل لتسأل: من أنا فعلًا حين أختار نفسي؟
لا تخف من كسر الهالة القديمة، تلك التي رسمتها الظروف لا القناعة. لا تخف من أن تكون مختلفًا، هادئًا في زمن الضجيج، رحيمًا في زمن القسوة، صادقًا في زمن يربّي القلوب على الأقنعة.
أنت لا تحتاج إلى أن تُثبت شيئًا لأحد، بل أن تُعيد جسورك الداخلية إلى الحياة. حين تبدأ بمحاورة ذاتك بدلًا من محاكمتها، ستجد أن بداخلك رجلًا آخر، أكثر نقاء، أكثر اتزانًا، كأنه نسيَ نفسه في الزحام، وهو الآن يلوّح لك من ضفةٍ أخرى.
كن صبورًا على هذا التحوّل. النور لا يقتحم، بل يُدعى. والسلام لا يُفرض، بل يُولد من قرارٍ شجاع: أن لا تُشبه الظلال التي عبرتها، وأن لا تُعيد إنتاج الألم الذي تلقّيته.
فأنت لست نتيجة ما مرّ بك، بل اختيارك في ما بعده. ولعل أجمل انتصار تحققه، أن تنهض كل صباحٍ دون قناع... وفي قلبك سكينة، تشبه الرجوع إلى وطنٍ كنتَ تظنه قد غاب.
أترى الآن؟ كل ما كان يُثقل كتفيك لم يكن جبلًا، بل فكرة. وكل ما كنت تظنه جدارًا لا يُكسر، لم يكن سوى ظلِّ خوفٍ كبُرَ في غياب المواجهة. لقد بدأت رحلتك حين تجرأت على الاعتراف بأنك تستحق هالةً جديدة، لا تتكوّن من المجد الزائف، ولا من صخب الخارج، بل من نورٍ هادئ ينمو في داخلك، ويشبهك.
الهالة الإيجابية التي تحدّثنا عنها لم تكن يومًا وهمًا مريحًا، بل دعوة صادقة لاختيار النقاء في عالمٍ يعجُّ بالتشويش. أن تصنع في قلبك مأوى من السلام، وأن تقيم في داخلك صمتًا يُثمر لا جمودًا، بل وعيًا.
لقد اجتزت المرحلة الأصعب: أن تنظر لما حولك دون أن تفقد ما فيك. أن تُصدّق بأن الهدوء لا يعني الاستسلام، بل امتلاك القوة التي لا تحتاج إلى إثبات. أن تؤمن بأن الحياة لا تهديك النور، بل تمنحك أدوات إشعاله، وأنت وحدك تقرر متى، وأين، ولأجل من.
ها أنت تقف الآن، لا لتُعلن وصولك، بل لتبدأ بصمت... صوتك الداخلي لم يعُد يصرخ، بل يُرشد. خطوتك لم تعُد تهرب، بل تختار. ونورك؟ لم يعُد بحاجة إلى أن يُرى من الجميع، بل يكفي أنه يُضيء لك الطريق.
فكن كما أردت دومًا أن تكون: خفيفًا من ثقلهم، كبيرًا بقيمك، وساكنًا في عمقك، كما لو أنك تعود أخيرًا إلى ذاتك الأولى... التي انتظرتك طويلًا.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق