الأربعاء، 26 مارس 2025

 

وهم البريق.. وحقيقة الخديعة!

 

لماذا نشتري بلا تفكير؟ سؤال لم يشغلني يوماً، حتى وجدت نفسي واقفاً في متجر يعجّ بالعروض اللامعة، والأرفف المصفوفة كأنها تهمس: "خذني معك، فأنا الصفقة الأفضل!". كانت رائحة المكان مزيجاً من الورق المقوّى والعطور الاصطناعية، وتحت الأضواء الصفراء الهادئة، كان كل شيء يبدو أكثر إغراءً!، كأن البضائع نفسها تتفاخر بعلاماتها التجارية الفاخرة، وتتباهى بجاذبيتها أمام الزبائن.

 

التفتُ إلى ابني، فوجدته يحمل صابونة بغلاف ذهبي، عاقداً حاجبيه بإعجاب طفولي: "بابا، فيها فيتامينات!"، ضحكتُ، لكنني في داخلي تساءلت: كم مرة اشترينا الوهم، لمجرد أن بريقه كان أكثر إقناعاً من الحقيقة؟ وكم مرة وقعنا ضحية كلمات منمقة صيغت بدهاء، وألوان صاخبة صممت بعناية، فقط لنمدّ أيدينا إلى المنتج وكأننا مسيّرون بلا وعي؟

 

في ذلك اليوم، لم أشترِ الصابونة لأنها الأغلى، بل لأن بائعاً متحمساً أقنعني بأنها الحل السحري الذي سيختصر علينا زجاجات الشامبو المتناثرة في الحمام، إذ أخبرني أنها تحتوي على زيوت طبيعية تغني عن أي مستحضر آخر، وأنها تجمع بين العناية والفخامة في قطعة صغيرة واحدة!، كنت أظن أنني أحقق صفقة، فكم هو رائع أن تشتري منتجاً واحداً يقوم بعمل اثنين؟ حملتها إلى المنزل بشعور المنتصر، غير مدرك أنني كنت أدفع، ليس فقط بمالي، بل بجسدي أيضاً!

 

مرت أيام، وبدأت حكة غامضة تزحف على جلدي، كأن إبراً خفية تتسلل تحت المسام، وتلسعني بلا هوادة!، في البداية، تجاهلت الأمر، ظننت أنه تغير في الطقس، أو حساسية عابرة ستختفي من تلقاء نفسها، لكن كل ليلة، كنت أستيقظ لأجد نفسي أحكّ محيط البطن بلا وعي، حتى صار الأمر يزعجني بحق، فبحثتُ عن السبب في كل مكان إلا في أكثر الأماكن وضوحاً: تلك الصابونة "المعجزة"!

 

سألتُ طبيب العائلة، وقلّبتُ ملابسي، وراجعتُ نظامي الغذائي، غير أن اللغز ظلّ قائماً، حتى كان ذلك اليوم الذي رويتُ فيه لصديقي كيف "وفّرتُ" على نفسي عبء شراء الشامبو، لحظتها فقط!، تراقصت الإشارات في رأسي، وكأن باباً كان موصداً قد انفتح فجأة!، ببساطة! توقفتُ عن استخدام صابونة الاستحمام، وكأنني سحبتُ المفتاح من قفل اللغز، فاختفت الحكة كما جاءت، بلا وداع! عندها فقط أدركت أنني كنت أدفع ثمن "الوهم" مرتين: مرة بمالي، ومرة بجودة حياتي!

 

لكن الدرس لم يكن لي وحدي! الأطفال، تلك العيون الصغيرة التي تلمع ببريق التصديق، كيف سيعرفون الفرق بين الحقيقة والخداع إن لم نعلمهم أن ليس كل لامع ذهباً؟ وكيف سيحمون أنفسهم من فخ الإعلانات التي تعدهم بذكاء خارق في قطعة شوكولاتة، أو قوة ساحقة في زجاجة مكملات؟ كنت بحاجة لأن أمنحهم البوصلة التي ترشدهم وسط بحر الإغراءات الاستهلاكية، البوصلة التي تجعلهم يتساءلون قبل أن يصدقوا، ويفكرون قبل أن يشتروا، ويفهمون أن القيمة لا تُقاس ببريق الغلاف وحده. ولم أكن أريد أن يكبروا وهم يصدقون كل كلمة تلمع أمامهم، أردت أن أعلمهم كيف يشكّون، وكيف يقرأون ما بين السطور، وكيف يرون ما خلف الدعاية البراقة.

 

بدأت رحلتي معهم، ليس بالمنع، بل بالسؤال: "لماذا نريد شراء هذا؟ هل نحتاجه حقاً، أم أن الإعلان جعله يبدو كالحلم الذي لا يُقاوم؟" صرنا نناقش العبارات المكتوبة على المنتجات، ونفكك الوعود البراقة، ونحلل العبارات التسويقية التي تبدو ذكية، لكنها تحمل فراغاً في مضمونها!، صاروا يقلّبون العلب الصغيرة في أيديهم، ويقرؤون الكلمات المكتوبة بخط صغير، ويسألون عن معنى كل مكون غريب، وكأنهم مفتشون في مهمة سرّية لكشف الخداع!

 

ذات يوم، رأيتُ أحد أبنائي يتأمل علبة منتج بتمعن، ثم يعيدها إلى الرف بعد أن قرأ مكوناتها وقال بحزم: "فيه ألوان صناعية كثيرة، ولا أعتقد أنه مفيد!"، عندها فقط، شعرت بأننا انتصرنا في معركة صغيرة ضد عالم يبيع الهواء في عبوات براقة.

 

لم تكن الصابونة مجرد رغوة زائلة، بل درساً عالقاً في الذاكرة، كأنها وشمت على جلدي حكمة خفية، درساً يهمس في أذني مع كل شراء متسرع، مع كل إغراء تسويقي يخدع العيون قبل العقول: "إن لم ننتبه، سنجد أنفسنا ندفع الثمن بطرق لم نتخيلها.. وأحياناً، بأغلى مما نتصور!"، فقد يكون الثمن مالاً يُهدر، أو صحة تتآكل ببطء، أو قناعة تُستبدل بوهم زائف، لكن النتيجة واحدة: خسائر نكتشفها بعد فوات الأوان!

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!

  هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ! كنت أظن أنني أمشي بثبات، أن خطواتي الصغيرة نحو المجهول محسوبة، أن القلب الذي تعوّد الصمت قد تعلّم أخيرًا أن يك...