حين تصمت الأرواح وتتحدث القلوب!
النفس البشرية بحر لا ساحل له،
وأعماقها أشد غموضاً من الليل حين يعانق الصمت!، فقد تتعطل لغة القلوب، وقد يصيب
المشاعر صدأ الزمن، فتبهت الأرواح، وتتشوش الأفكار، ويخبو وهج الجسد، والسبب؟
اختلافات تمتد بين العاطفة والتجربة، وبين الثقافة والضغوط الاجتماعية، وبين الخوف
من الفقد وعدم اليقين بالمستقبل، حتى إن الأسباب قد تتشابك كخيوط العنكبوت، يصعب
تحديد بدايتها أو نهايتها.
يقال إن التوافق في المشاعر والأفكار
أمر طبيعي، حتى وإن كانت المسافات بين الأجساد شاسعة!، فليس مستغرباً أن تجد قلبين
يعيشان في قارتين مختلفتين، لكن روحيهما تتواصلان كأنهما لم تفترقا قط، فالتوافق
أحياناً يخفي المسافات، يطويها كما يطوي الليل آخر خيوط النهار، فثمة أرواح تتلاقى
دون الحاجة إلى لقاء، تنبض على ذات الإيقاع رغم المسافات، كأنها تعرف لغة سرية لا
تحتاج إلى كلمات.
لكن، ماذا لو انعكس الأمر؟ ماذا لو
وجدت قلوباً تحيا تحت سقف واحد، تتقاسم ذات المائدة، وتتناوب على نفس الأحاديث،
لكنها في حقيقتها متباعدة كنجمتين في مجرة مترامية الأطراف؟ قد يلتقي الجسدان في
المساحة ذاتها، لكن الفراغ الروحي بينهما لا يسده شيء!، وتصبح العلاقة نمطاً
متكرراً، وطقوساً يومية خاوية من المعنى، والحديث مجرد صدى لا يصل إلى القلب.
يحدث كثيراً أن يتآلف زوجان بالزواج،
لكن الحب لم يلامس روحيهما!، فيصبح القرب مجرد وهم بصري، والحميمية مظهراً اجتماعياً،
بينما الحقيقة تكمن في جفاف المشاعر وانعدام الوهج الذي يشعل شرارة الحياة، حينها،
لا تكون المسافة جسدية، بل روحية، وتلك أشد ألماً، إذ لا يعوضها لقاء، ولا يجبرها
اعتذار، إذ كيف يمكن أن يكون الإنسان وحيداً وهو في حضرة من يفترض أن يكون أقرب
إليه من ذاته؟
قد يكون الخوف من الاقتراب نتيجة ندوب
قديمة، أو تجارب سابقة تركت أثرها العميق، أو اختلافات لا سبيل إلى التوفيق بينها!،
فهناك من يخشى الذوبان في الآخر، ومن يتردد في منح روحه بالكامل خوفاً من الانكسار،
وهكذا، يولد نوع آخر من الوحدة، وحدة بين شخصين يظن الآخرون أنهما معاً، لكن
الحقيقة أن بينهما فجوة لا يراها سوى من يعيشها، إنها الوحدة الأكثر قسوة!، حيث
يصبح الآخر مرآة للخواء، بدلاً من أن يكون ملجأً من العزلة.
وما أغرب أن تكون الروح حبيسة جدران
الوحدة رغم قرب الأجساد، وأن يمر العمر على قلبين متجاورين، لكن كلاً منهما ينظر
في اتجاه آخر، يبحث عن دفء مفقود، وعن كلمة لم تُقل، وعن إحساس لم يكتمل!، فقد
يحاولان الاستمرار، لكنه استمرار يشبه السير على حافة هاوية، كل خطوة فيها تنذر
بالسقوط، فالأرواح العالقة بين حضور الجسد وغياب الروح تعيش غربتها الصامتة، وتتأرجح
بين الكلمات التي تُقال بغير معنى، واللحظات التي تمضي كأنها لا تنتمي إلى الزمن،
هناك حيث يصبح التواصل مجرد صدى باهت، والألفة غريبة كحلم قديم لم يكتمل.
ولكن، هل القلوب تظل متصلة حتى وإن
ابتعدت الأرواح؟ أم أن القلوب تتحدث فقط حين تسكت الأرواح؟ ربما الإجابة تكمن في
لحظة صمت بين عاشقين، وفي رسالة لم تُرسل، وفي نظرة تحاول أن تقول شيئاً لكنها
تتراجع في اللحظة الأخيرة، ربما تكمن في الحنين الذي يطفو فجأة دون سبب، وفي
الرغبة غير المفسرة بالعودة إلى شيء لم يكن كاملاً يوماً.
الحياة مليئة بتناقضات غريبة، قربٌ
يولد بُعداً، وبُعدٌ يزرع حنيناً، وكأننا محكومون بالبحث الدائم عن التوازن بين ما
نشعر به وما نعيشه، فليس كل اقتراب دليل مودة، وليس كل بُعد يعني جفاء، فهناك
أرواح تلتقي في صمت، وقلوب تتحدث حين يعجز اللسان، وهناك مسافات تُمحى حين تتلاقى
النظرات.
إنها حكاية الإنسان مع نفسه، ومع
الآخرين، ومع خوفه من الوحدة وسعيه وراء الألفة، ومع التناقض العجيب بين القرب
والبعد، وبين اللقاء والافتراق، وبين العيش معاً والافتراق في الروح، وربما، في
نهاية المطاف، ليست المسافة هي ما يحدد القرب، بل تلك الشعلة الخفية التي تتوهج
بين القلوب، والتي إن انطفأت، صار كل شيء بعدها صمتاً، مهما كان القرب ظاهرياً.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق