الأربعاء، 26 مارس 2025

 

بين التفاصيل الصغيرة تكمن الحقائق الكبرى!

 

يقال إن الإنسان كائن يسير على درب الأسئلة، يبحث في كل تفصيلة عن مغزى، وفي كل موقف عن درس مخفي بين طيات الحياة!، فقد يظن بعضهم أن الإدراك يأتي فقط من التجارب العظيمة، لكن أحياناً، مجرد حديث عابر، لحظة تأمل، أو حتى شكوى بسيطة قد تكون المفتاح الذي يفتح أبواب الفهم.

 

في مسيرة الأيام، نسير وننفق، نختار ونقرر، نبحث عن الأفضل، ونقع في فخ الظاهر البراق!، كم مرة اشترينا شيئاً لمجرد بريقه دون أن نفكر في مدى ملاءمته؟ وكم مرة ظننا أن الغالي هو الأفضل، ثم أدركنا لاحقاً أن الحكمة تكمن في الاختيار، لا في الثمن؟ يقول وارين بافيت: "إذا اشتريت ما لا تحتاج، ستضطر يوماً إلى بيع ما تحتاج". ليست المشكلة في إنفاق المال، بل في إنفاقه دون وعي، دون أن نسأل أنفسنا: هل هو ضرورة أم مجرد اندفاع؟

 

لكن الأهم من ذلك كله، هو كيف نلاحظ أنفسنا في زحام التفاصيل؟ كيف نربط بين المتغيرات الصغيرة التي تبدو متباعدة لنصل إلى استنتاج قد لا يخطر لنا للوهلة الأولى؟ ربما يعاني أحدهم من مشكلة بسيطة، ويمضي باحثاً عن الحل في أماكن بعيدة، بينما يكمن الجواب في تكرار يومي لم يلتفت إليه!، كم مرة وقفنا أمام مرآة الأيام، نرى الانعكاس ذاته، لكن دون أن نربط بين التفاصيل المتكررة؟ الإدراك ليس مجرد علم يُدرس، بل قدرة على ملاحظة الأنماط، واسترجاع الأحداث، وإعادة النظر في ما يبدو مألوفاً لكنه يخفي خلفه حقيقة أخرى.

 

يقول ألبرت أينشتاين: "الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتتوقع نتيجة مختلفة". أليس هذا ما يحدث حين نعيش المشكلة ذاتها دون أن نتوقف لإعادة التفكير؟ فحين نواجه عقبة ما، نبحث عن الحل في مكان بعيد، بينما يكمن الجواب في تغيير زاوية النظر، وفي اختبار الفرضيات، وفي التوقف عن تكرار ذات الأساليب وانتظار نتائج مختلفة.

 

وهنا، تأتي إحدى أعظم المهارات التي يجب أن نمتلكها: فن إعادة التفكير!، أن نعود خطوة للوراء، نراجع أنفسنا دون أن ننجرف خلف الفرضيات الجاهزة، وأن نشكك في مسلماتنا الصغيرة، ونختبر الأمور بدلاً من التسليم بها، فحين تتكرر المشكلة، ولا نجد لها تفسيراً واضحاً، ربما علينا أن ننظر لا إلى الأمور الكبرى، بل إلى التفاصيل المتروكة جانباً، تلك التي تمر دون أن تستوقفنا.

 

إن العقل، بطبيعته، يحاول سد الفجوات، لكنه لا يحب الفراغ!، يقول مارك توين: "من السهل خداع الناس، لكن من الصعب إقناعهم بأنهم قد خُدعوا"، وهذا لا ينطبق فقط على الأكاذيب الكبرى، بل حتى على تلك الأفكار الصغيرة التي نقتنع بها دون أن نعيد اختبارها!، فكم مرة صدقنا أن شيئاً ما هو الأفضل، فقط لأننا لم نجرب غيره؟ وكم مرة تجاهلنا إشارات واضحة، لأننا كنا نبحث عن إجابة مختلفة؟

 

ترشيد الإنفاق، والتفكير النقدي، والقدرة على الملاحظة، كلها ليست مجرد شعارات، بل أدوات علينا استخدامها في تفاصيل الحياة اليومية، لا في الأمور العظيمة فقط، بل حتى في اختيار الأشياء البسيطة، فمن يدقق في الصغير، يدرك الكبير، ومن يراقب التفاصيل، يفهم الصورة الكاملة.

 

وفي النهاية، لعل أهم درس في كل هذا، أن لا شيء يمر دون أن يترك أثراً، ولا تجربة تأتي دون معنى، حتى تلك التي نظنها عابرة قد تكون مفتاحاً لفهم أكبر مما نظن!، قال ستيف جوبز: "لا يمكنك ربط النقاط بالنظر إلى الأمام، يمكنك فقط ربطها بالنظر إلى الوراء". المهم فقط أن نتعلم فن الإصغاء للحياة، فالحياة تتحدث دائماً، لكن القليل فقط هم من يجيدون الاستماع.

 

جهاد غريب

مارس 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تتعانق الأرواح خارج النص!

  حين تتعانق الأرواح خارج النص!  ثمة علاقات لا تُكتب، لا تُوثّق، ولا يُؤذَن لها أن تُذاع، لكنها تنبض في عمق الكيان كما تنبض الأسرار في وجدان...