بين ضجيج الأفكار وهدوء
العوالم: بحث عن معنى في الفوضى!
في عالمٍ
يزدحم بالأسئلة أكثر من الإجابات، نجد أنفسنا أحياناً عالقين في دوامة من الأفكار المتزاحمة،
كأننا نحاول التقاط النجوم بأيدٍ عاجزة. هذا النص محاولة لاستكشاف تلك الفوضى الداخلية،
لعلنا نجد في خضمها بعض الإجابات، أو ربما مجرد أسئلة جديدة تفتح أبواباً لم نكن نعرفها،
فلنبدأ الرحلة.
في
البداية، كانت في رأسي أفكارٌ متزاحمة، تتدافع كما لو كانت تبحث عن منفذٍ للهرب، لا
أستطيع أن ألتقط فكرة واحدة وأكملها كما يجب، وكلما حاولت الإمساك بخيطٍ واضح، انجرفت
إلى سؤال آخر، ثم آخر، حتى وجدت نفسي عالقاً في متاهة من الأفكار!، كأنني أبحث عن بابٍ
في جدارٍ بلا ملامح، وربما كان هذا الازدحام ذاته سؤالاً: لماذا هذا الضجيج في عقولنا؟
هل هناك عوالم أخرى لا تعرف هذا الضجيج؟ عوالم لا تشبهنا!، خالية من التكدس الفكري،
حيث تسير الأفكار كما تسير الرياح، بلا اصطدام أو عرقلة، لكن ماذا لو كانت هذه الفوضى
الفكرية مجرد انعكاس لعالمنا الخارجي؟ عالمٌ نصنعه بقواعدنا ونعجز عن فهمه.
تخيلتُ
عوالماً خالية من الضوابط المبالغ فيها، خالية من الصخب الذي صنعناه بأيدينا، عوالم
لا تحتاج إلى قوانين تُفرض، أو قواعد تُحدد لنا كيف نلعب، عوالم لا تعجز عن اللعب بإتقان
كما نفعل نحن!، لماذا نبتكر القواعد، لنقع بعد ذلك في حيرة أمام تعقيداتها وتفاصيلها؟
وهنا، نظرتُ إلى السماء، فلم أجد فيها ازدحاماً!، الطيور هناك لا تواجه إشارات مرور،
ولا تحدها طرقٌ إسفلتية، ولا ترتبك عند مفترق غيوم، وها هي السماء شاسعة، فارغة من
المباني، ومن أعمدة الكهرباء، ومن كل ما يثقل الأرض ويقيّد البشر. كيف لها ألّا تشعر
بالراحة مقارنةً بنا؟ أو ربما ليس الأمر كذلك!، ربما هي فقط مختلفة، لا تعرف معنى الراحة
كما نعرفها نحن. هل يمكن أن تكون السماء، بفراغها الواسع، تعاني من فراغٍ آخر؟ فراغ
الهدف، وفراغ المعنى؟ ربما نحن، بكل انشغالنا، نبحث عن شيءٍ ما، بينما هي تسبح في فضاءٍ
لا يعرف البحث.
وبينما
كنت أفكر في السماء، وفي اتساعها وحركتها الدائمة، خطر لي سؤال: ماذا عن الكائنات التي
لا تعرف هذا الامتداد، ولا تعيش في رحاب الحركة؟ تلك التي لا تطارد الأفق، ولا تلاحق
الغيوم؟ ثم خطرت لي النباتات، تلك الكائنات التي لا تغادر أماكنها، فهي ثابتة كأنها
تعيش صبراً أبدياً!، كل من أراد شيئاً منها (ثماراً، أو ظلاً، أو حتى ورقةً خضراء)
يأتي إليها، لا حاجة لها للحركة!، لعل من حسن حظها ألا تهدر طاقتها في التنقل، لكن،
هل هو حسن حظ حقاً؟ أليس هذا الثبات نوعاً من الملل؟ قد تعاني الأشجار مللاً لا ندركه!،
لأننا لا نسمع صمتها، أو ربما لا تعاني، فلعل تزورها العصافير وتكسر رتابة أيامها،
فتروي لها قصص الرياح والغيوم، وتغني لها بألوانها قبل أصواتها، لعله عطاءٌ متبادل،
فالطيور تمنحها الحكايات، وهي بدورها تمنحها الثمار. ولكن ماذا عن الكائنات التي تعيش
في عوالم لا نراها، عوالم لا تعرف الضوء ولا الهواء، بل تعيش في صمتٍ تام؟
ثم تساءلت:
كيف تبدو الحياة لو لم يكن هناك سطحٌ للأرض؟ ماذا لو كنا نعيش في باطنها مثل الحشرات
والدود؟ لا شمس، لا هواء نقي، لا أفق!، "مع احترامي لعالم البشر طبعاً"،
فقط ظلامٌ وتربةٌ صامتة. كيف يقضون حياتهم القصيرة هناك؟ ألا يشعرون بالضيق؟ ربما يكون
هذا ضيقاً من نوعٍ آخر، وصخباً صامتاً كصخب الأفكار في رأسي، مع ذلك، هؤلاء الكائنات
لا تملك رفاهية السؤال، أو البحث عن معنى، بينما نحن (بكل ازدحامنا الداخلي) لدينا
القدرة على التفكير، وهذه نعمةٌ ونقمة في آنٍ معاً.
الفيلسوف
"جان بول سارتر" قال ذات مرة: "الجحيم هو الآخرون"، لكن ربما الجحيم
أيضاً هو أفكارنا حين تتزاحم دون أن تجد مخرجاً، فنحن البشر محظوظون بقدرتنا على محاورة
أنفسنا، رغم الألم الذي قد يصاحب هذا الحوار أحياناً، ويمكننا أن نجد الراحة من داخلنا،
وأن نخلق الترفيه دون حاجةٍ لعالمٍ خارجي، ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك مخلوقات
أخرى تحيا في عوالمٍ أقل ازدحاماً، وتحلّق في فضاءات لا تعرف الحدود. هل يمكن أن تكون
هذه القدرة على التفكير هي ما يجعلنا نشعر بالوحدة أحياناً؟ ربما نحن الوحيدون الذين
نعاني من هذا الصراع! بين الرغبة في الفهم والخوف من عدم العثور على إجابات.
قد
يكون سر هذا الصراع! هو أننا نعيش بين نقيضين: نشتاق للفراغ! بينما نخشى مواجهته، ونحاول
ملء عقولنا بأفكارٍ لا تنتهي!، حتى لا نصغي لصوت الصمت، لكن الحقيقة التي لا مفر منها،
أن أجمل اللحظات أحياناً هي تلك التي لا نفكر فيها كثيراً، بل فقط نكون.
لعل الصمت
ليس فراغاً، ولعل الفراغ ليس صمتاً، بل هما مساحةٌ نادرة نتعلم فيها أن نسمع أنفسنا
بعيداً عن ضجيج العالم، فالصمت قد يكون اللغة الوحيدة التي تفهمها الروح، بينما الفراغ
قد يكون اللحظة التي نكتشف فيها أنفسنا من جديد، وربما ليس علينا دائماً أن نجد إجابات
لكل شيء، يكفي فقط!، أن نطرح الأسئلة لنشعر أننا أحياء.
وفي النهاية،
قد تكون الأسئلة هي الإجابات التي نبحث عنها، أو ربما تكون الفراغات التي نتركها بين
الكلمات هي ما يعلمنا أن الصمت ليس غياباً، بل حضورٌ مختلف.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق