حوار على حافة الضوء... بين ظلّين يعرفان بعضهما!
"صوتان في حاشية كتاب قديم يكشفان أكثر مما يعترفان"
*
ـــــــــــــــــ
جلسا متقابلين
كما لو أن الزمن توقف ليمنحهما لحظة صدق خالصة.
بين يديهما كوبان من القهوة،
يبردان ببطء،
وقد علقت في بخارهما نوايا الحديث الذي لم يُولد بعد.
حواء تنظر في عيني آدم
كما لو كانت تبحث عن انعكاسها فيه،
وآدم يُنصت كما يُنصت فيلسوف
لصدى نفسه وهو يتحدث على لسان غيره.
لم يكن بينهما شيء عادي،
لا الكلمات،
ولا الصمت،
ولا حتى المسافات.
كان اللقاء أشبه بمحاولة إعادة تشكيل الذات
عبر مرآة الآخر.
وفي لحظةٍ بدا فيها كل شيء أكثر شفافية،
التقطت حواء السؤال من بين أنفاسها...
حواء (وهي تطرق بأصابعها على طرف الكوب):
قل لي، ما الذي لا أقوله؟
ما الذي تراني عليه ولا أراه؟
كانت كلماتها ناعمة،
لكنها تحمل بين ثناياها رجفة اعتراف خفي.
هي لا تبحث عن مجاملة،
بل عن مرآة،
حتى لو عكست تجاعيد الروح.
آدم (بصوت خافت):
أخشى أن أضعكِ تحت مشرط الحقيقة،
فتنزفين أكثر مما تحتملين.
أنتِ لستِ مرآة مكسورة، بل شمعة...
تذوب لتضيء الآخرين،
دون أن تنتبهي للنار التي تأكلكِ برفق.
كان صوته يحمل دفئًا وتحذيرًا في آنٍ.
لم يشأ أن يجرح شفافيتها المتعبة،
لكن صدقه أبى أن يصمت.
حواء (بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة):
جميلة هي كلماتك...
تؤلمني دون أن تذبحني.
هل تعلم؟
أفضّل هذا النوع من الألم على راحة الغفلة الجميلة.
في تلك اللحظة،
لم تكن تطلب منه إنقاذًا،
بل اعترافًا.
كانت تتوسل للحقيقة أن تزورها،
حتى لو جاءت على هيئة شوكة في باقة ورد.
سكنت الكلمات قليلًا،
لكن النظرات تابعت الحديث...
تبدّل الضوء،
وتسلّل ظلٌ خفيف إلى الملامح،
كما لو أن اعترافًا كان يشقّ طريقه في الصمت.
آدم (كأنما يبوح بشيء يعرف أنه لن يُقال مرةً أخرى):
أنتِ لا تغفرين بالكامل...
بل تُلبسين الجراح ثوبًا من السخرية
كي لا تنكشف هشاشتكِ.
ضحكتكِ دائمًا تحمل خلفها صدىً لا يُشاركه أحد،
كأن القلب يتذكّر شيئًا في غير وقته.
كانت كلماته مثل نسمة دافئة في غرفة باردة،
توقظ شيئًا نائمًا.
حواء (وهي تميل برأسها):
أأبدو لكِ بهذا الوضوح؟
لم يخبرني أحد بذلك من قبل.
أنتَ لا تصفني،
بل تكشفني.
كان قلبها يطرق على جدران الصمت.
لم تكن معتادة على من يقرأ ما وراء عينيها،
على من يرى جراحها لا كضعف،
بل كحقيقةٍ نبيلة.
آدم (بهدوء نادر):
ليس كل من يرى،
يعرف كيف يُمسك بالحقيقة دون أن يكسرها.
وأنا...
لا أريد أن أكون السبب في سقوط دمعة
لم تُجهّزي لها منديلًا.
ورغم نبرته الرزينة،
خُيّل لحواء أن في قلبه غرفة مغلقة،
تحتفظ باسمٍ،
ووعدٍ،
وظلِّ امرأةٍ لم تكتمل.
انعكست في عينيها مرآة أخرى...
أعمق، وأصدق.
حواء (بصوت يشبه الدعاء):
لو كان بيننا وعدٌ ما،
هل كنتَ ستوفي به؟
كان السؤال أشبه بمفتاح صدى،
يُلامس شيئًا قديما في القلب…
صمتٌ ثقيل تمدد كوردة ذابلة على خدّ الفكرة،
كأن الجواب يعرف الطريق… لكنه يتريث.
آدم (بعد صمت طويل):
أقسمتُ مرة،
أن أظلُ وفيًا لحقيقة شعرتُ بها مدى العمر...
لكنها لم تنضج كفاية لتصبح أكثر من مجرد حب،
ولا كانت هشة كفاية لتموت.
كان يتحدث
كما يهمس رجلٌ لحضورٍ لا يتجسّد،
ما زال يسكن في فصول قلبه،
لا يغيب تمامًا...
ولا يأتي بكامله.
حواء (بابتسامة حزينة):
وهل أنا تلك الحقيقة؟
لم تنتظر جوابًا.
كانت تعرف أن بعض الأسئلة
خُلقت لتظل معلّقة،
كقمر لا يكتمل.
غادرا المكان بصمت،
لكن شيئًا ما تغير.
حواء،
حملت معها مرآة من كلماته،
تنظر فيها لتفهم،
لا لتلوم.
وآدم،
ترك لها جزءًا من حكمته المغلّفة بالحذر،
وظل يمشي بعيدًا،
كأن كل خطوةٍ
اتفاقٌ سريّ على البقاء...
في حدود العقل،
لا في بركان القلب.
كان لقاؤهما درسًا في الحب المؤجل،
في الحوار الذي لا يريد أن يتحول إلى اعتراف،
وفي العلاقات التي تنمو في الظل،
وتحمل من الضوء ما يكفي كي لا تموت،
وما لا يكفي كي تُزهر تمامًا.
حواء وآدم،
لم يكونا عاشقين فقط…
بل روحين تواطأتا على كشف الحقيقة،
كلٌّ بطريقته.
وصارت العلاقة
كظلّين على مسافة من الضوء،
لا ليهربا من وهجه،
بل ليبقيا في حافّة الضوء الهادئة،
حيث لا نارٌ تلتهم،
ولا دفءٌ يكفي لتزهر الروح.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق