الأحد، 16 فبراير 2025

 

حكمة طفل: حين تنعكس الحياة في مرآة البراءة!

 حينما ينظر الطفل إلى المستقبل، يراه كلوحة واسعة من الألوان والأحلام، تمتزج فيها الرغبات البريئة بالأسئلة التي لم تجد بعد إجاباتها. لا يملك الطفل رفاهية التنظير، لكنه يملك فطرة التساؤل، وتلك الفطرة وحدها تكفي لصياغة رؤيته للعالم بطريقة لم يدنسها اليقين الزائف، فالأطفال، بعفويتهم الفطرية، يرون الأشياء كما هي، دون أن يغلفوها بتعقيدات الواقع التي ينسجها الكبار، إنهم لا يجاملون الحقيقة، ولا يهادنونها، بل ينطقون بها كما تبدو لهم، حتى وإن كانت في أعين البالغين غير مكتملة أو ساذجة، في نظرهم، الخير والشر ليسا أفكاراً فلسفية، بل مواقف يومية، والعدل ليس مفهوماً معقداً، بل إحساس بسيط بأن يأخذ كل ذي حق حقه.

 

عندما سألتُ "أيان"، وهو طفل في الثانية عشرة من عمره، كيف يرى المستقبل، أجاب ببساطة مذهلة: "المستقبل جميل، لكن فيه عقبات كثيرة... الكاذبون لا يتوقفون عن الكذب، وبعض المعلمين يظلمون طلابهم". لم يكن يتحدث من باب التشاؤم، بل من باب الإدراك الفطري أن النور لا يكون إلا بوجود الظلال، وأن العالم ليس كما تعرضه القصص الملونة، بل هو مزيج متداخل من الأمل والخذلان. قد يظن البعض أن الأطفال لا يدركون تعقيدات الواقع، لكنهم في الحقيقة يرونها بعيون صافية لم تخضع بعد لحسابات المصالح والتبريرات، ولهذا تكون آراؤهم أكثر نقاءً، وأحياناً أكثر صدمة!، إنهم يشبهون المرايا الصادقة، تعكس الحقيقة كما هي، دون رتوش، ودون محاولات تزيين أو تشويه.

 

الطفل، حتى في أكثر لحظاته بساطة، يحمل فلسفة خاصة به، وإن لم يدركها بوعي كامل، فهو يرى أن المستقبل ليس مجرد شيء قادم، بل هو امتداد لكل ما نفعله اليوم، وكما قال "أيان" بحكمة غير متوقعة: "المستقبل لا يترتب على شيء، المستقبل كل ما فعلته يأتي عليك في النهاية". إنها إجابة تختصر دروس الحياة في جملة واحدة، وكأن الطفل، بفطرته، يعبّر عن قانون السبب والنتيجة دون أن يقرأه في كتب الفلاسفة!، الطفل بريء، نعم، لكنه ليس ساذجاً، بل يملك نظرة فطرية للعالم قد يغفل عنها الكبار وهم منشغلون بتعقيد كل شيء.

 

ربما لم يكن أيان قادراً على صياغة أفكاره بلغة معقدة، لكنه كان يلتقط جوهر الأشياء بفطرته الصافية، كلماته لم تكن مجرد إجابات عابرة، بل كانت أشبه ببذور تنمو في أرض وعيه، تشكل رؤيته للعالم دون أن يدري، لم يكن يتحدث عن المستقبل كفكرة غامضة بعيدة، بل كظل ممتد للحاضر، وكصدى لكل ما نفعله اليوم.

 

أدركت أن مفهومه عن المستقبل ليس محصوراً في التعليم أو العمل، بل هو أكثر امتداداً، وحين سألته إن كان يرى أن المستقبل يتعلق فقط بالكاذبين والمعلمين، قال: "المستقبل ليس نتيجة شيء واحد... إنه كل ما فعلته يعود إليك في النهاية". كانت إجابته تلك تشبه انعكاس الحكمة في مرآة الطفولة، إذ تختصر قانون الحياة في أبسط صوره: نحن نحصد ما نزرع، وكل فعل صغير يتراكم ليصبح مصيراً!، في داخله، كان الطفل يدرك أن الزمن ليس كياناً منفصلاً عن الإنسان، بل هو أثر أقدامنا على الطريق.

 

عندما انتقل الحديث إلى أحلامه، كان تفكيره متجذراً في عالمه الخاص، "أريد أن أكون طالباً مثالياً وأصنع مستقبلاً باهراً"، هكذا أجاب حينما سألته عن أهدافه، لكنه بدا متردداً عندما سألته عن الزواج والعلاقات الإنسانية، كأن هذه الفكرة لم تدخل دائرته بعد، وعندما ألححت بالسؤال، قال بتردد: "الأمر يعتمد على أن أكون مستعداً... عليّ أن أنهي دراستي، وأجد عملاً جيداً، ثم أفكر في الزواج وتكوين أسرة". لم يكن ينفر من الفكرة، لكنه كان يضعها على رفّ بعيد، كأنها محطة لاحقة على طريق لم يصل إليها بعد.

 

أما عن الأصدقاء، فقد كشف عن نظرة توازن بين الاستمتاع بالحياة وفهم تعقيداتها، فقال: "بعض الأصدقاء يكذبون ويستهلكون صحتك لمصلحتهم، لكن إن استغليت نفسك جيداً، ستجد نفسك تصل إلى القمة". لم يكن ساذجاً ليؤمن بأن الصداقة مثالية، ولم يكن متشائماً لينكر وجودها!، كان يدرك أن بعض العلاقات تستهلك المرء، وأن الإنسان عليه أن يفهم نفسه قبل أن يقرر من يستحق أن يكون جزءاً من رحلته.

 

عندما سألت أيان عن أحلامه، لم يتردد: "أحلامي الكبرى أن أمتلك شركة ناجحة، وأحلامي الصغيرة أن يكون لدي بيت جميل". أراد الاستقلال، وأراد أن يصنع شيئاً يخصه، لم يكن يحلم بالشهرة أو الأضواء، بل بالقدرة على صنع شيء يكون انعكاساً له، لكنه، في الوقت ذاته، لم يكن منغلقاً على هذا الحلم، إذ قال وهو يتحدث عن اللعب: "هناك شركات تكسب المليارات من الألعاب". لم يكن يرى اللعب مجرد مضيعة للوقت، بل كان يراه صناعة، وفرصة، وشيئاً يمكن أن يكون له قيمة إذا أُحسن استثماره.

 

لكن ما لفت انتباهي أكثر هو إدراكه للمسؤولية تجاه الوقت، فعندما واجهته بواقع أنه يقضي ساعات طويلة في اللعب، أجاب بثقة: "أنا أذاكر دروسي، ثم ألعب، والمشكلة ليست في اللعب، بل في من يلعب دون أن يعرف كيف يدير وقته". لم يكن الطفل يرى الترفيه كخصم للتعلم، بل كمساحة يمكن ضبطها بوعي!، كان يعرف أن هناك توازناً يجب تحقيقه، حتى لو لم يكن قد أتقنه بعد.

 

أما عندما تحدثت معه عن المرضى والمحتاجين، فقد كشف عن جانب آخر من وعيه!، قال ببساطة: "أنا أدعو لهم، ويجب أن نساعدهم ليصبحوا بخير". لم يكن يخوض في فلسفة العطاء، لكنه أدرك أن التعاطف لا يعني أن تذرف الدموع فقط، بل أن تمد يدك حين تستطيع.

 

وفي النهاية، طرحت عليه سؤالاً كان بمثابة اختبار أخير: هل تعتقد أن هناك أذكياء وأغبياء؟ وأين تصنف نفسك؟ فأجاب بإجابة أدهشتني: "العلماء لم يصلوا حتى الآن لفهم كامل للذكاء البشري، لكن بعض الناس لا يهتمون، ويضيعون وقتهم في اللهو، وهذا خطأ... وأنا أصنف نفسي من الذين يهتمون". لم يكن يصف نفسه بالعبقرية، لكنه كان يؤمن أن الذكاء ليس مجرد هبة، بل اختيار، وأن الإنسان الذكي ليس هو من يملك القدرة على الفهم، بل من يقرر أن يهتم.

 

كان أيان طفلاً مثل كثير من الأطفال، لكنه في إجاباته كشف عن عالم داخلي يتشكل بين الحلم والواقع، وبين الوعي الفطري والتجربة، لم يكن يملك جميع الإجابات، لكنه كان يملك فضيلة التساؤل، وهذه وحدها نعمة يجهلها الكثيرون!، إن الأطفال لا يحتاجون إلى أن يكونوا خزائن ممتلئة بالحقائق الجاهزة، بل يحتاجون إلى أن يكونوا بحّارة ماهرين في بحر الأسئلة، يجدفون بفضولهم، ويكتشفون مرافئ المعرفة ببطء، دون خوف من التيه. قال سقراط: "الذكاء الحقيقي هو أن تعرف أنك لا تعرف"، وكأن المعرفة ليست وجهةً نصل إليها، بل طريقٌ طويل لا ينتهي.

 

إن الطفل الذي يسأل، حتى لو لم يجد إجابة، هو طفل يخطو بالفعل نحو المستقبل، لأن الأسئلة تحمل في طياتها بذور الإجابات القادمة، وحين ينمو الطفل على حب التساؤل، فإنه يربّي داخله شغفاً بالحياة، واستعداداً لاكتشافها. كل عظيم في هذا العالم كان يوماً طفلاً يجلس في ركنٍ ما، ينظر إلى سقف غرفته، ويطرح على نفسه أسئلة غامضة عن المستقبل، ربما كان أينشتاين ذات يوم مثل أيان، يتساءل لماذا تسقط الأشياء إلى الأرض، ربما جلس ستيف جوبز يتأمل كيف يمكن لصندوق صغير أن يغيّر طريقة تواصل البشر. الأفكار العظيمة تبدأ من التساؤل البسيط، لكنها تحتاج إلى طفل يؤمن بأن الإجابة، وإن تأخرت، ستأتي يوماً.

 

ليس المطلوب من الأطفال أن يكونوا عباقرة، ولا أن يجدوا جميع الإجابات في سن مبكرة، بل أن يدركوا أن الفضول هو مفتاح الأبواب التي لم تُفتح بعد، فالحياة ليست سباقاً نحو الإجابات، بل هي مغامرة مستمرة للبحث عنها، والأطفال الذين يحلمون بالمستقبل يجب أن يدركوا أن المستقبل ليس مجرد صفحة بيضاء تُكتب عليها الأقدار، بل هو حصيلة الأيام التي يعيشونها، والقرارات الصغيرة التي يتخذونها، والفضول الذي يملأ قلوبهم، فليس هناك طريق واحد للنجاح، بل دروب متعددة، بعضها محفوفٌ بالعثرات، وبعضها مُضاءٌ بأحلام الطفولة، لكنّ الأهم أن يسير الطفل وهو يحمل سؤاله في قلبه، دون أن يسمح لأحدٍ بأن يطفئ نوره.

 

في نهاية المطاف، ليس الذكاء في أن نعرف كل شيء، بل في أن نملك الشجاعة للاعتراف بأننا لا نعرف، وأن نسير في الحياة بعيونٍ مفتوحة، نبحث ونتعلم وننمو، دون أن نتوقف عن السؤال. يقول ريتشارد فاينمان: "لا تخف من عدم المعرفة، بل خف من التوقف عن التساؤل". لأن السؤال هو بداية كل شيء، وهو الشعلة التي تضيء الطريق لمن يريد أن يصنع مستقبله، لا لمن ينتظر أن يصنعه له الآخرون.

 

والأطفال وحدهم، بتساؤلاتهم البريئة، يملكون تلك الشجاعة الفطرية لمواجهة الحياة دون أقنعة، دون خوف من أن تكون الإجابة ناقصة أو غير مكتملة، ففي كل سؤال يطرحه طفل، هناك بذرة لفكرة عظيمة، وفي كل إجابة غير متوقعة، يكمن وحيٌ لمستقبل لم يُكتب بعد، ربما نحن، الكبار، بحاجة إلى استعادة دهشة الطفولة تلك، إلى إعادة النظر في العالم كما يراه الصغار، ببساطة وصدق، دون أن نُثقل عقولنا بهواجس التبرير أو قيود المنطق الجاف، فالحكمة الحقيقية قد لا تكون فيما نعتقد أننا نعرفه، بل فيما نسمح لأنفسنا بأن نكتشفه من جديد، كما لو أننا نراه لأول مرة.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين تتنفس السماء من صدرك!

  حين تتنفس السماء من صدرك!  كانت الغيوم تمرُّ كسفنٍ من قطنٍ مبلل، تجرّ خيولها الخفية خيوطًا من ضوء شاحب على مرآة البحر. وقفتُ على حافة الها...