الاتصال بالعالم:
حين يصبح العالم شاشة!
يبدو العالم
اليوم صغيراً بما يكفي ليُختصر في شاشة هاتف!، وواسعاً بما يكفي ليبتلع تفاصيلنا بين
موجات من الأخبار والصور والضوضاء الرقمية. هل هذا هو العالم حقاً؟ أم أن هناك عالماً
آخر يختبئ خلف هذه الواجهة المضيئة، وينتظر من يراه بلا فلاتر؟ إننا نعيش في زمن تتدفق
فيه المعلومات بلا هوادة، حيث يمكننا الوصول إلى أي مكان، وأي شخص في لمح البصر، لكن
هذا الاتصال المذهل يثير سؤالاً عميقاً: هل نحن حقاً على اتصال بالعالم، أم أننا فقط
نمر بأطرافه! كمسافرين عابرين لا يتركون أثراً ولا يحملون شيئاً في قلوبهم؟
العالم
ليس مجرد خرائط وحدود وتضاريس، وليس مجرد أسماء مدن وصور ملتقطة من نوافذ الطائرات،
إنه أكبر من ذلك، وأعمق من أن يُختزل في إشعارات تظهر على شاشاتنا، ربما نحن نتوهم
أننا نتواصل مع هذا العالم! بمجرد إرسال رسالة، أو مشاركة فكرة، لكن الاتصال الحقيقي
يتجاوز التقنية!، إنه الشعور بالانتماء، والفهم العميق لتفاصيل البشر والأماكن، وأيضاً،
الإحساس بأننا جزءٌ حيٌ نابضٌ من هذا الكون.
"ليس
المهم أن ترى العالم، بل أن تراه بعينك لا بعين الآخرين"، كما قال هنري ديفيد
ثورو، ولكن كيف لنا أن نرى بوضوح ونحن نختبئ خلف شاشات تعكس وجوهنا أكثر مما تعكس وجوه
العالم؟ الاتصال الذي كان في الماضي يحمل حرارة اللقاء، وصدى الأصوات الحقيقية!، بات
اليوم صامتاً، تُحركه إشارات ضوئية وتعبيرات رمزية، ففي الماضي، كان الخطاب رسالةً
مكتوبة بخط اليد تحمل عبق الشخص الذي كتبها، أما الآن، فهو مجرد نصٍ عابر في محادثة
قد تُنسى بمجرد إغلاق التطبيق.
لقد أصبح
الاتصال بالعالم أكثر سهولة، لكنه فقد شيئاً من روحه!، نحن نستطيع التحدث مع أناس في
قارات أخرى، لكن كم مرة جلسنا لنستمع بصدق لمن هم بجوارنا؟ كم مرة أنصتنا لأنفسنا وسط
هذا الصخب؟ ربما لهذا يبدو العالم جائعاً لتواصلنا، ليس لأننا بعيدون عنه، بل لأننا
فقدنا القدرة على اللمس الحقيقي، ليس بأيدينا، بل بقلوبنا.
المعلومات
التي نتلقاها لا تأتي محايدة، إنها محمّلة بنوايا خفية، تُشكل وعينا دون أن ندري!،
نحن نعيش في زمن تُباع فيه الحقيقة في سوق الأخبار المزيفة، حيث تُصنع الآراء كما تُصنع
السلع. يقول جورج أورويل: "من يسيطر على الماضي، يسيطر على المستقبل؛ ومن يسيطر
على الحاضر، يسيطر على الماضي". وهذه السيطرة تتم عبر الاتصال المستمر الذي لا
يترك لنا وقتاً لنفكر أو نشكك.
إننا نركض
خلف الاتصال بالعالم، لكننا ننسى التواصل مع ذواتنا!، ربما يكون السؤال الحقيقي: لماذا
نخشى الصمت؟ لماذا نملأ حياتنا بالضجيج حتى لا نسمع أفكارنا الحقيقية؟ يبدو أننا لا
نتصل بالعالم لنفهمه، بل لنملأ فراغاً داخلياً نخشاه!، هذا الاتصال ليس اختياراً دائماً،
بل أحياناً يصبح فرضاً، حيث تُلاحقنا الأخبار، وتدفعنا تنبيهات هواتفنا لنكون دائماً
"متصلين"، كأن الانفصال يعني الغياب عن الحياة نفسها.
ورغم كل
هذا، هناك فرق دقيق بين الاتصال والتواصل، فالاتصال قد يكون مجرد عبور، أو إشارات تمر
بين طرفين دون عمق، أما التواصل، فهو أن تترك جزءاً منك في الآخر، وأن تحمل جزءاً منه
فيك!، إنه الحوار الذي لا يحتاج إلى شبكة إنترنت، بل إلى قلوب مفتوحة وعقول يقظة.
في النهاية،
لا يكمن جوهر الاتصال بالعالم في عدد الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا في
سرعة الوصول إلى المعلومة، بل في قدرتنا على فهم هذا العالم بعمق، والتواصل معه بصدق!،
وقد يكون أعظم اتصال هو ذلك الذي نعيشه بصمت، حين ننظر إلى السماء ليلاً، أو نستمع
لصوت البحر، أو نشارك لحظة صادقة مع شخص نحبه.
لذلك،
ربما يكون الاتصال الحقيقي بالعالم هو ذلك الذي لا يحتاج إلى إشارة، بل إلى حضور!،
الحضور الكامل الذي يجعلنا نشعر أننا لسنا مجرد عابرين في هذا الكون، بل جزء منه، نفهمه
ويفهمنا.
وفي
الختام، يمكن أن نتأمل هذه الفكرة الجوهرية: "ليس الاتصال هو ما يجعلنا قريبين،
بل القرب الحقيقي هو ما يصنع الاتصال".
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق