الأحد، 16 فبراير 2025

 

الحقيقة... بين ضوء وظل!

 

كنت بين يقظة وحلم، أترنح كما لو كنت أسير على خيط رفيع مشدود بين عالمين!، العقل معلق بين الإدراك والضياع، لا يقين يُمسَك به، ولا حلم يُسلم النفس للراحة، كان كل شيء مشوشاً، كأنني أعبر ضباباً كثيفاً تتداخل فيه الصور والأصوات، فلا أميّز الحقيقة من الوهم، ولا أدري إن كنت في عالمي، أم أنني انزلقت إلى عالم آخر، عالم يتلاعب بي كما يشاء!، في هذه الحالة الغريبة، سمعت صوتاً يهمس في أذني، يحمل اسماً لم أعرفه من قبل: "موران"

 

كان الاسم يتردد في رأسي، يلتف حول أفكاري كضوء خافت يلمع من بعيد دون أن أصل إليه، كأنه صدى قديم، يحمل وقعاً غامضاً، ويثير ألف تساؤل دون أن يمنح إجابة واحدة!، هل كان اسماً حقيقياً، أم رمزاً لشيء مجهول؟ هل كان يحمل دلالة الحكمة، أم أنه تمويه يخفي خلفه شيئاً أشد ظلمة؟ لم أكن أعرف، لكنه لم يكن مجرد كلمة عابرة، بل كأنه مفتاح لعالم آخر، عالم لم أكن أعلم بوجوده.

 

ثم رأيته أخيراً، خرج من أعماق حلم قديم لم أعد أذكره!، كان "موران" دميم الوجه، ملامحه غارقة في تجاعيد لا تحصى، كأنها نقوش محفورة على حجر مهجور، عيناه كانتا تحملان بقايا صمت قديم، ليس الصمت الذي يشي بالهدوء، بل ذاك الذي يسبق العواصف، أو ذاك الذي يخلفه الفقدان عندما تنتهي الكلمات وتبقى الحسرة وحدها شاهدة على ما ضاع، لم يتحرك، لكن حضوره كان طاغياً، كأنما احتل الفراغ حوله وصبغه بظله الطويل.

 

كان يقف وسط حشد صغير، كأنهم يدورون في فلكه دون أن يدركوا السبب، يتطلعون إليه بعيون يملؤها ذهول خفي، كأنهم أسرى لسلطة لا يرونها، لكنهم يشعرون بها، كان يتحدث، لكن صوته لم يكن مجرد صوت، بل كأنه تموّج في الهواء كأصداء متقطعة، كلماته تتناثر مثل شظايا حلم لم يكتمل، لم تكن لغة مألوفة، لكنها كانت تحمل وقعاً يجتاح القلب كريح باردة، كما لو أنني لم أسمعها بأذني، بل بشيء أعمق في داخلي.

 

حين تحدث، بدا صوته خشناً، كأنه صوت رجل لم يتحدث منذ سنوات، أو كأن كلماته كانت ثقيلة تحتاج إلى عناء لتخرج، كان هناك شيء في صوته، شيء يجعلني أشعر بأنني على وشك اكتشاف حقيقة ما، حقيقة قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية!، كنت أستمع إليه وأحاول أن أفهم، لكن كلماته كانت تلتف حولي كدوامة!، كلما أمسكت بطرف خيط، أفلت مني ألف خيط آخر، كان أشبه بساحر لا يعتمد على الوهم، بل على التلاعب بالعقول، وعلى دس الأفكار التي تجعل الإنسان يصدق أنه لا خيار له! سوى السير في الطريق الذي رسمه له الآخرون.

 

تساءلت بصوت خافت، كأنني أخشى أن يسمعني أحد: "من يكون هذا الرجل؟" جاءني الرد من أحد الواقفين: "هو بائع متجول، يقتات على تعب الأيام ويبيع للناس ما لا يُشترى"، لكنني لم أقتنع!، كان هناك شيء أعمق في هذا الرجل، شيء لا يمكن وصفه بكلمات بسيطة.

 

سألتُ: "لمَ تتجمعون حوله؟ أما كان الأجدر أن تلتفوا حول من يحمونكم من العواصف، أولئك الذين لا يولّون الأدبار حين تشتد الأيام؟"، لكن أحدهم قال لي: "هو ليس مجرد بائع، بل هو صوت الحقيقة التي لا نريد سماعها".

 

رجل آخر التفت إليّ، كانت نظرته خالية من المجاملة، وقال: "لا تقل إنه عاقل يسرق، قد يكون أعمق فساداً من اللصوص، لكنه لا يحتاج إلى السرقة!"، لم أكد أستوعب قوله حتى دوّى صوت موران، كصرخة مدوية شقت الأفق: "ليست الفضائل بالتأويل، ولا بالتعليل!"، في تلك اللحظة، شعرت أنني على وشك فهم شيء ما.

 

تساءلت في داخلي: هل يملك قلبين في جوف واحد؟ كان يتحدث بلا توقف، كأن كلماته تُقتطع من نسيج الزمن نفسه. "حمل فأسه وسار يحفر، حفرةً تلو الأخرى، حتى استنزف روحه، وظل يحفر حتى صار هو نفسه حفرة!"، كانت كلماته تحاصرني، وتتكاثف حولي، كأنها تريد أن تُحدث شرخاً في داخلي.

 

دخلت في حوار داخلي لا نهاية له، كأن صوتين يتجادلان داخل رأسي، أحدهما يريد أن يفهم، والآخر يخشى أن يفهم أكثر مما ينبغي!، وكان إدراكي يتسع وينكمش في آنٍ واحد، وكأنني أفتح باباً!، ثم أجدني أقف أمام باب آخر، كل باب يقودني إلى ممر لا ينتهي، التفتُّ إلى موران، فوجدته ينظر إليّ بعينين نافذتين، ليس كمن يسأل، بل كمن ينتظر أن أصل إلى شيء ما، لم يقل شيئاً، لكن في صمته كان هناك يقين مريب، وكأن صمته نفسه كان جزءاً من اللغز!، كنت أشعر أنني أمام مرآة لا تعكس صورتي، بل تعكس ما أخفيه عن نفسي. هل كان يعلم أنني سأصل إلى الحقيقة وحدي؟ أم أنه لم يكن يحتاج إلى أن يخبرني بها، لأنني كنت أحملها منذ البداية دون أن أدرك؟

 

بدأت ألهث خلف كلماته، أفتّش بينها عن خيطٍ واضح يقودني إلى الفهم، لكن عقلي كان يتأرجح بين الاستيعاب والضياع، كمن يسير على حافة بين ضوء وظل، لا يدري إن كان سيكمل طريقه، أم يسقط في هاوية من الشك. هل كنت في حلم؟ أم أنني وقفت على حافة حقيقة أكبر مما كنت أتصوّر؟ شعرت بأنني أواجه لغزاً، لكنه لم يكن لغزاً تقليدياً، بل كان يشبه السراب!، كلما اقتربت منه، تلاشى أمامي ليمتد أبعد من ذي قبل، وكنت أتحسس طريقاً غير مرئي، أشعر أنني على وشك فهم شيء جوهري، لكن هذا الشيء ظل يراوغني، كأنه يريد أن يُكشف فقط لمن يستطيع تحمّل رؤيته.

 

وراح الزمن يتباطأ من حولي، أو هكذا خُيّل إليّ، وكأنني دخلت في فراغ بين لحظتين، حيث لا ماضٍ يُستعاد، ولا مستقبل يُرتقب، بل مجرد لحظةٍ ممتدة بين الإدراك والتساؤل. كنت أراه أمامي، لكنني لم أعد متأكداً: هل أراه كما هو، أم كما يريدني أن أراه؟ هل كان يلعب بالكلمات، أم كان ينسج لي خريطة للخروج من متاهةٍ لم أكن أعلم أنني عالق فيها؟

 

كيف ينتقل من موضوع لآخر بهذه الطريقة؟ كيف يبدو حيناً طيباً، وحيناً قاسياً، ثم ينقلب إلى حكيم يرى الأشياء من زاوية لا نراها؟ هذا الرجل غريب!، حاولت أن أمسك بخيط كلماته، لكن عباراته كانت تتراقص كطيف لا يُدرك، قلت في نفسي: "سأركز في الجملة القادمة، وسألتقط كل حرف، لعلي أفهم".

 

ثم قال: "الوقت هو العدو الذي لا يُهادن"، جملة قصيرة، لكنها انغرست في رأسي! كرمحٍ لا يمكن انتزاعه بسهولة، فشعرت كأنها لم تكن مجرد كلمات، بل كانت طعنة خفيفة في وعيي، تترك ندبة غير مرئية. الوقت… هذا الكائن الصامت، الذي يمضي دون أن نراه، لكنه يترك أثره في كل شيء، كيف يكون عدواً؟ أليس هو أيضاً اليد التي تداوي، كما هو اليد التي تسلب؟ أردت أن أسأله، لكنني شعرت أنني لو فتحت فمي، ستخرج الأسئلة كلها دفعة واحدة، وستبتلعني قبل أن أتمكن من سماع إجابته.

 

أرهفتُ السمع، لكن الكلمات كانت تنزلق من بين أصابعي كالماء، كنت أود أن أمسك بها، أن أفهمها، أن أجعلها جزءاً من وعيي، لكنها كانت تفلت، كأنها لم تكن تُقال لي، بل كانت تُقال للزمن نفسه، وأنا مجرد شاهد على حوارٍ بين رجلٍ وحقيقة لا تُمسك.

 

قال: "لكل شيء حكمة، وإن غابت عنك اليوم، ستنكشف غداً حين لا تكون في حاجة إليها". هذه المرة لم يكن صوته مجرد صدى يتلاشى، بل كان جرساً يرن داخل رأسي، كأنني سمعت هذه العبارة من قبل، في حلمٍ قديم، أو ربما في لحظة منسية من حياتي. لماذا تأتي الحكمة متأخرة؟ لماذا لا تظهر في وقتها، حين يكون بإمكاننا الاستفادة منها؟ هل الحكمة تولد من الندم؟ أم أننا لا نراها إلا عندما تصبح عديمة الجدوى؟ هل نحن الذين نتأخر عن فهمها، أم أنها تختار ألا تكشف عن نفسها إلا حين تقرر ذلك؟

 

في تلك اللحظة، شعرت أنني لم أعد كما كنت!، كان هناك شيء ما قد تغيّر، لكنه تغيّر بهدوء، كما يتغير لون البحر في المساء دون أن يلاحظه أحد!، نظرت إليه، لكنني لم أعد متأكداً إن كنت أراه، أم أنني أرى نفسي فيه! هل استطاع أن يتلبسني؟ أم أنني بدأت أرى ما كان يراه؟

 

أم أن الحقيقة هي أننا جميعاً انعكاسات لبعضنا البعض، نحمل نفس الأسئلة، وندور في نفس الدائرة، ونصل إلى نفس الحيرة، لكن كلٌّ منا يظن أنه أول من وقف على هذه العتبة؟ هل كنت أمامه، أم كنت أمام نفسي؟ أم أن لا شيء يمكن أن يُقال، لأن كل شيء قد قيل من قبل، ولم يسمعه أحد؟

 

قال بصوت ثابت كأنه يوقّع على حكم لا رجعة فيه: "إن الحقيقة لا تُقال مرتين، فمن لم يفهمها في المرة الأولى، لن يفهمها أبداً". شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، لم تكن بسبب الكلمات فحسب، بل بسبب الطريقة التي قيلت بها، وكأنها قانون قديم لا يقبل التفاوض. ماذا لو كنا نمر على الحقيقة كل يوم، لكننا لا نملك الأذن لسماعها، أو العين لرؤيتها، أو القلب لاستقبالها؟ هل كانت الحياة كلها سلسلة من الفرص الضائعة، حيث نسمع الكلمات حين لا نحتاجها، ونبحث عنها حين تصبح بعيدة؟

 

التفتُّ إليه، لكن هذه المرة، لم يكن هناك سوى صمت ثقيل!، كأن العالم بأسره توقف لحظة ليستمع إلى صداه، شعرت وكأنني بدأت أستيقظ، لكن ليس استيقاظاً كاملاً، بل أشبه بخروج بطيء من حلم لزج، حيث يظل العقل متشبثاً بآخر خيوط الغيبوبة، وللحظة، بدا كل شيء أكثر وضوحاً، لكن في نفس الوقت، أكثر غموضاً!، لم أعد متأكداً مما إذا كنت في نهاية الحلم، أم في بدايته الحقيقية.

 

كان الهواء حولي ساكناً، لكنه مثقل بشيء غير مرئي، كأن الصمت نفسه كان يختزن إجابات لم أكن مستعداً لسماعها، فحاولت أن أنطق، أن أقطع هذا الفراغ الثقيل بكلمة، بسؤال، بأي شيء، لكن صوتي كان معلقاً بين حنجرتي والعالم، تماماً كما كان عقلي معلقاً بين الحقيقة والضياع، استرجعت ملامح موران في ذهني، لكنه لم يكن وجهاً واضحاً، بل ظلّاً يتلاشى في الضباب، كأنه لم يكن كائناً من لحم ودم، بل فكرة أكبر مني، أو شيء لم أستطع تسميته بعد، شعرت للحظة أنه لم يكن شخصاً، بل كان صدى لحقيقة لم أدركها تماماً، أو ربما انعكاساً لما كنت أبحث عنه طوال الوقت دون أن أعلم.

 

وكأن إدراكي كان يختبرني، يضعني أمام لحظة فاصلة بين ما أراه وما أصدقه، بين الواقع كما أعرفه والاحتمالات التي لم أجرؤ على مواجهتها، كان عليّ أن أواصل، أن أخطو نحو المجهول، حتى لو كان يحمل في طياته إجابة لم أكن مستعداً لها.

 

كانت الغرفة ضيقة، والجدران تمتص ضوء المصابيح الخافتة، كأنها تبتلع الزمن نفسه!، تقدمتُ بحذر إلى الممر المجاور، وخطواتي تتردد كصدى بعيد في رأسي قبل أن يلامس أذني، ثم -دون إنذار- اصطدمتُ بجسد صلب، شعرتُ بارتداد جسدي، وكأن الهواء انكمش لحظة الاصطدام، فرفعتُ بصري لأجد موران أمامي، عيناه تغوصان في عينيّ، كأنهما تعبران عن معرفة أزلية، أو ربما استنكاراً لوجودي نفسه. "ألم تكن تتوقعني؟" سأل بصوت بدا كهمس قادم من أعماقي، لا من فمه.

 

تراجعتُ خطوة، لكن الجدار كان أقرب مما ظننت!، ظلاله امتدت حولنا كستارة كثيفة، تفصلني عن كل شيء آخر، مدّ يده وكأنه يريد أن يؤكد وجوده، أو ربما أن يختبر شكوكي، لكن هل لمسني حقاً؟ شعرتُ بضغط خفيف على كتفي، أو ربما كان مجرد توهم!، طرفتُ بعيني، وفي اللحظة التالية، لم يكن هناك أحد!، كان الممر فارغاً تماماً، إلا من أنفاسي المتسارعة. هل اصطدمتُ به فعلاً؟ أم أنني ارتطمتُ بشيء آخر؟ أم ربما... بجزء من عقلي؟

 

في تلك اللحظة، عادت إليّ ذكرى ضبابية من البداية، من ذلك الصوت الذي همس باسمه في أذني عندما كنت عالقاً بين يقظة وحلم، شعرت كأن الدائرة أغلقت على نفسها، وكأنني لم أصل إلى هنا، بل كنت هنا منذ البداية، قبل أن أدرك، وقبل أن أبحث، وقبل أن أسأل.

 

الحقيقة، تلك الكلمة التي نطاردها كمن يطارد ظله، أحياناً نقترب منها حد اللمس، ثم نفاجأ بأنها مجرد انعكاس لما نريد تصديقه، الغموض ليس دائماً لغزاً مفروضاً علينا، بل قد يكون وهماً ننسجه حول أنفسنا، كخيوط العنكبوت التي نظنها تحمينا، بينما هي في الحقيقة تسجننا.

 

والزمن؟ إنه يمضي، سواء كنا نركض خلفه، أو نغرق في انتظاره، بعضنا يسكبه في قوالب الإنجاز، وآخرون يبددونه في التيه، لكنه في النهاية يمضي بنفس الإيقاع، لا يكترث لما فعلنا به!، والأكثر قسوة، أن الحكمة لا تأتي إلا بعد أن نفقد ما كان يجب أن نفهمه من البداية، تأتي متأخرة، وتلقي علينا ضوءها البارد بعدما كنا بأمسّ الحاجة إليه في العتمة.

 

لكن ربما هذا هو جوهر كل شيء!، أن نعيش بين البحث عن الحقيقة وصناعة الغموض، وبين محاولات استغلال الوقت وإضاعته، وبين انتظار الحكمة وظهورها حين لا نعود بحاجة إليها، وربما... أن نتعلم التعايش مع ذلك، هو الحكمة نفسها.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع!

  أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع! "كلما اقتربنا من المرايا، انحرفت وجوهنا إلى ظلال... فهل كنا نحن؟ أم مجرد أطيافٍ تحلم أن...