الصراع الداخلي… ذاك
المخذول العالق في الظل!
كل منا،
ولو لم يعترف بذلك، يحمل داخله خصماً لا يراه أحد!، خصمٌ خفيٌّ يختبئ في الزوايا المعتمة
من النفس، يهمس لنا حين نكون وحدنا، ويطل برأسه حين نهرب من الأسئلة، ويتنفس في لحظات
التأمل!، نسميه أحياناً الضمير، وأحياناً الشك، وأحياناً أخرى مجرد هواجس عابرة، لكنه
ليس سوى الصراع الداخلي، ذاك الذي لا يحسم معركة، ولا يغادر ساحة القتال، بل يظل معلقاً
بين النور والظل، بين الطمأنينة والاضطراب، وبين أن نكون أو لا نكون.
لقد تخيلته
كثيراً كظلٍ يلاحقني، وكخصمٍ وهميّ يتجسد في صورةٍ لا ملامح لها، يقترب ثم يبتعد، ويهمس
ثم يصمت، لكنه لا يختفي أبداً. قلت له ذات مرة: "تعال، إن كنت تجرؤ، واجهني!"
لكنه لا يواجه، لأنه جبان!، لا يملك سوى همساتٍ تُحاكُ في العتمة!، يطرح أسئلة لا تحتاج
إجابات، ويفتح جروحاً ظننت أنها اندملت، ثم يتركها تنزف. هل تساءلت يوماً لماذا نجح
غيرك وأنت ما زلت عالقاً؟ هل فكرت ماذا حققت؟ هل تدرك أنك ربما كنت مجرد فكرة مؤجلة
في حياة الآخرين؟ هو لا يحاجج بعقل، بل يضعك في مواجهة مرآةٍ لا تعكس سوى الخوف، وأحياناً
الخواء.
ومع كل
مواجهة في تلك المرآة، كان يتسلل إليّ إدراكٌ آخر: أن الصراع الداخلي لا يولد إلا حين
يتسلل الشك، والشك ابنٌ شرعيٌّ للفراغ. قال سقراط ذات يوم: "الحياة غير المفحوصة
لا تستحق أن تُعاش". لكن ماذا لو أن الفحص ذاته يصبح سجناً؟ ماذا لو أن كل سؤالٍ
يفتح باباً لا يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الأسئلة؟ هنا تكمن المأساة، حين يصبح المرء سجّان
نفسه، يسأل ولا ينتظر إجابة، ويتصارع ولا ينتظر نهايةً للحرب، وينهك نفسه في صراعٍ
لا طرف فيه سوى ذاته.
لكن، ويا
لسخرية القدر، هذا الصراع ذاته هو ما يجعلنا نكبر، فكل انكسارٍ داخليٍّ يولد قوةً جديدة،
تماماً كما قال نيتشه: "ما لا يقتلنا، يجعلنا أقوى". بل ربما ليس الصراع
هو العدو، وإنما استسلامنا له، ربما وُجد هذا الصراع ليكون اختباراً، ليقيس مدى قدرتنا
على الاحتفاظ بنورنا الداخلي وسط العتمة، وليخبرنا أن المعركة لم تكن يوماً ضده، بل
ضد أنفسنا.
أدركت
أخيراً أن الصراع الداخلي لا يزول!، لكنه يتقلص حين ننشغل بالحياة، ولكن، كما أن لكل
معركة استراحة، فإن الصراع الداخلي ذاته يخفت حين ننشغل عن الإصغاء لهمسه، وحين نحب،
وحين نطمح، وحين نسير ولو خطوة واحدة نحو حلمٍ صغير!، في تلك اللحظات، يصبح مجرد طيفٍ
بعيد، أو نجمةً خافتةً في سماءٍ واسعة، تحاول أن تضيء لكنها تفشل، وتظل هناك، في الهامش،
مخذولةً، كأنها تدرك أنها لم تعد قادرةً على إخافتنا كما كانت تفعل من قبل.
فيا أيها
الصراع الداخلي، لستَ إلا وهماً يتمدد في العزلة، وصوتاً خافتاً في الزوايا المعتمة!،
قد تقترب، وقد تهمس، وقد تطرق الأبواب في ليالي الشك، لكنك لن تكون أكثر من نجمٍ يحتضر،
يلمع للحظةٍ أخيرة قبل أن يختفي في العدم.
وهنا تكمن
المفارقة!، فحين نعتقد أننا قد تحررنا منه، نجد أنه لم يختفِ، بل ارتدى قناعاً آخر!،
لكن هل يختفي الصراع الداخلي حقاً، أم أنه يتخذ أشكالاً أخرى كلما اعتقدنا أننا نجونا
منه؟ ربما لا يموت، بل يتحول، ويتلون، ويغير نبرته!، فحين نظن أننا أسكناه!، يعود بصوتٍ
أكثر خفوتاً، لكنه أكثر خطورة!، لم يعد يطرح الأسئلة المباشرة عن النجاح والفشل، بل
صار أكثر دهاءً، إذ يختبئ خلف تفاصيل صغيرة، أو نظرةٍ عابرة، أو تعليقٍ غير مقصود،
أو ذكرى لم نعد نعلم لماذا تؤلمنا، ولم يعد يأتي بوضوح، بل يتسلل كالماء بين الشقوق،
وكظلٍ لا ندرك متى بدأ يطول خلفنا.
كلما تقدمنا
في العمر، بدا أن الصراع الداخلي ينضج معنا، ويصبح أكثر تعقيداً، وأكثر التصاقاً بالوعي!،
لم يعد مجرد تساؤلاتٍ طفولية عن المكانة والإنجاز، بل غدا مواجهةً مع الذات العارية
من كل الزخارف. من نحن حقاً حين لا يرانا أحد؟ ماذا تبقى حين نسقط عن أنفسنا كل الأقنعة؟
أفكار لم يكن لها وجود قبل سنوات، لكنها الآن! تقف وجهاً لوجه أمامنا، وتراقبنا بصمتٍ
لا يحتمل.
قال الفيلسوف
شوبنهاور: "الحياة تأرجحٌ بين الألم والملل". ربما هذا هو جوهر الصراع الداخلي،
أنه لا يتركنا في حالنا!، فيدفعنا للبحث حين لا نجد إجابة، وحين نجدها، يشككنا فيها،
ويجعلنا نرتاب في الأشياء التي نحبها، ثم يضع أمامنا أخرى نظن أنها كانت أفضل، فقط
لنكتشف لاحقاً أنها لم تكن سوى وهمٍ جديد، يقنعنا بأننا نفتقد شيئاً، وحين نحصل عليه،
نبحث عن شيء آخر!، في النهاية، نحن لا نحارب الصراع الداخلي، بل نحارب أنفسنا التي
لا تكتفي، ولا تهدأ، ولا تتصالح مع نفسها تماماً.
ومع ذلك،
ألا يمكن النظر إليه من زاوية أخرى؟ ماذا لو لم يكن الصراع الداخلي عدواً بالمعنى التقليدي،
بل رفيق طريق، ليس ذلك الخصم الذي يجب أن نقتله، بل هو الجزء الذي يدفعنا للمضي قدماً،
حتى وإن كان مؤلماً، أليس هو من يجعلنا نعيد النظر فيما نفعل؟ أليس هو من يدفعنا للبحث
عن إجاباتٍ أعمق، وعن حياةٍ تستحق أن تُعاش بوعي؟ إن أعظم الانتصارات ليست في خنقه،
بل في ترويضه، وفي جعله قوةً لا ضعفاً، وفي استخدام شكوكه كسُلَّمٍ نحو يقينٍ أكثر
صلابة.
في النهاية،
لا أحد يتخلص من صراعه الداخلي تماماً، لكنه، مع الوقت، يصبح أقل وحشية، أشبه بظلٍ
هادئ، يراقب لكنه لا يتدخل، ويمر لكنه لا يمكث، لم يعد ذلك الخصم المتوحش الذي يهاجم
في العتمة، بل صار ضيفاً تعلمنا كيف نستضيفه دون أن نتركه يعبث بأركان أرواحنا، أصبح
مجرد صوت بعيد، كضوضاء مدينة لا تُسمع إلا حين نصغي إليها، وربما، في مرحلة ما!، ندرك
أن التخلص منه لم يكن الهدف يوماً، بل الهدف كان أن نتعلم كيف نتعايش معه دون أن نصبح
رهائن له.
فيا أيها
الصراع الداخلي، إن كنت تظن أنك ستظل سيفاً معلقاً فوق رأسي، فاعلم أنك لست سوى ظلٍّ
طويلٍ في ظهيرةٍ قصيرة، قد تمتد للحظة، وقد تخدعني بوهجك، وقد تفرض حضورك، لكنك حتماً
ستتلاشى!، لأن الشمس لا تبقي ظلّاً خلفها حين تمضي نحو الغروب.
أخيراً،
ربما الصراع الداخلي ليس لعنةً، بل بوصلة، وليس قيداً، بل اختبارٌ لحريتنا، فبقدر ما
نحاربه، بقدر ما نكتشف من نحن حقاً.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق