ظل يمشي خلف قلبك!
"الغيرة
تُشبه النار، قد تدفئك إن أبقيتها تحت السيطرة، لكنها تحرقك إن تركتها تتصاعد بلا قيد"،
هكذا كتب أحد الحكماء يوماً، وكأن كلماته تنفذ مباشرة إلى صميم هذا الشعور الإنساني
الغامض!، الغيرة ليست مجرد ظاهرة يمكن أن تُحصر في تعريف أو تُلجم بحدود واضحة، بل
هي خليط معقد من المشاعر، تتراقص بين الرغبة والخوف، بين الحب والشك، وبين الحاجة إلى
الامتلاك والخشية من الفقد.
قد يحاول
الفلاسفة تفسيرها من زوايا شتى: أرسطو رأى أنها تنبع من الإحساس بالنقص، بينما قال
شوبنهاور: إن الغيرة دليل على ضعف الثقة بالنفس، ولكن هل يمكن حقاً حصر الغيرة في نظرية
واحدة؟ أليست كل تجربة مع الغيرة، كأنها عالم منفصل، يعيش فيه الأفراد تفاصيلهم الخاصة،
يصوغونها بقلوبهم وظلال ذاكرتهم؟
الغيرة
موجعة أكثر حين يُتوقع منك أن تشعر بها، كما لو أنها واجب عاطفي يجب أداؤه في وقته
المحدد، لكنها أيضاً ثقيلة على القلب حين ينظر إليها البعض كعلامة على الرجعية أو قلة
النضج!، فهناك خيط رفيع بين متى يجب أن تنفجر، ومتى يجب كبتها، وإذا كُبِحت، هل يعني
ذلك الخلاص؟ أم مجرد تأجيل لموجة قادمة من التبرير، ومحاولات تفسير الموقف؟
في العلاقات
العاطفية، تبدو الغيرة، وكأنها اختبار صامت!، هل هي علامة حب أم بداية لتآكل الثقة؟
ربما تكون كلاهما، فهناك من يرى فيها بهارات العلاقة، وتضيف نكهة مشتعلة لا غنى عنها،
وهناك من يراها كالملح الزائد، يفسد الطبق إن لم يُضبط جيداً. يقول جبران خليل جبران:
"الغيرة في الحب كالماء للوردة، قليله ينعش وكثيره يقتل".
أما في
الأسرة، تلك الخلية الأولى التي تتشكل فيها مشاعرنا الأولى، فالغيرة تأخذ ألواناً متعددة!،
بين الأشقاء، قد تكون منافسة صامتة على انتباه الأهل، أو شعوراً دفيناً بالخوف من فقدان
مكانة ما!، وبين الآباء والأبناء، قد تنشأ من نجاح الابن الذي يُذكر الوالد بأحلامه
التي لم تتحقق، إنها ليست فقط بين العشاق، بل بين كل من يحمل قلباً ينبض، ويخشى أن
يفقد شيئاً عزيزاً.
ولكن،
هل هناك غيرة "محمودة"؟ وهل يمكن لأي طرف أن يخرج منها رابحاً؟ يبدو أن الغيرة
لا تُرضي جميع الأطراف أبداً، فهي تبدأ كهمسة، وربما كمسودة أولى لعتاب لطيف، ثم تتطور
إلى نقاشات، حتى تصل أحياناً إلى حد اللوم البليد! الذي يترك في القلب ندوباً لا تندمل
بسهولة.
ورغم كل
ذلك، للغيرة جانب إيجابي لا يمكن تجاهله، إنها مؤشر على أهمية الآخر في حياتنا، وتنبهنا
إلى عمق ارتباطنا بهم، وتكشف عن هشاشتنا التي نظن أحياناً أننا تجاوزناها!، ربما يكمن
السر في كيفية التعامل معها: لا كعدو يجب القضاء عليه، ولا كصديق مقرب نحتضنه بشدة،
بل كزائر عابر، نستمع له قليلاً ثم نودعه برفق.
في النهاية،
لا نصائح مباشرة يمكن أن تُقال عن الغيرة دون أن تبدو سطحية أو مثالية، فهي ليست معادلة
رياضية لها نتيجة واحدة، بل شعور يتسلل إلى القلب بطرق تختلف من شخص لآخر.
ربما يمكنني
أن أهمس للقارئ: لا تخف من غيرتك، فهي ليست عيباً تخجل منه، بل دليل على إنسانيتك،
وعلى قلبك الذي لا يزال ينبض بالحياة، ويخاف أن يفقد، ويأمل أن يحتفظ، لكنها مثل نار
الموقد، تمنح الدفء حين تُراقَب، وتحرق حين تُترك بلا حدود.
تذكر دائماً
قول نيتشه: "من لا يعرف الغيرة لا يعرف عمق الحب". فالغيرة هي مرآة تعكس
ما نخفيه أحياناً عن أنفسنا، رغبتنا العميقة في أن نكون مرئيين، ومرغوبين، ومهمين لدى
من نحب، لكنها أيضاً ليست معياراً للحب الناضج، لأن الحب الحقيقي لا يحتاج لإثباته
شعورٌ بالخوف من فقدان الآخر، بل يكفيه أن يكون حراً، صادقاً، وواثقاً، كالنهر الذي
يجري، لأنه يعرف طريقه دون الحاجة، لأن يُراقب مجراه أحد.
الحب الذي
يُختبر بالغيرة فقط حبٌ هش، يحتاج لمن يطمئنه باستمرار، بينما الحب الذي يتنفس الثقة
يعيش حتى في صمت الغياب!، لا تحاول قمع غيرتك لتبدو قوياً، ولا تطلق لها العنان لتبرر
لنفسك ضعفاً. دعها تكون كما هي: شعوراً عابراً يزورك، يجلس معك قليلاً، ثم يمضي، لأنك
أقوى من أن تجعله يقيم طويلاً.
وفي خضم
هذا كله، تذكر أن الغيرة ليست العدو، إنها مجرد ظل يمشي خلف قلبك!، كلما زادت ثقتك
بنفسك وبالآخرين، وكلما تلاشى هذا الظل، حتى لا يبقى سوى نور الحب ذاته، صافياً، بلا
شوائب، فالحب الحقيقي لا يحتاج إلى حراسة دائمة، لأن ما هو حقيقي لا يُسرق، وما هو
عميق لا يخشى الزوال.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق