الثلاثاء، 11 فبراير 2025

 

بين ظلال الشك ونور اليقين!

 

الشك ليس مجرد فكرة عابرة تمر في ذهن الإنسان، بل هو كائن خفي يتسلل إلى الزوايا المعتمة من القلب والعقل، وينمو بصمت في فراغات الثقة، ويتغذى على الهواجس والتجارب غير المكتملة، إنه ذاك الصوت الخافت الذي يهمس في أعماقك: "ماذا لو كنت مخطئاً؟" هو صوت لا يحتاج إلى دليل، يكفيه أن يكون موجوداً! ليهز جدران يقينك، مهما كانت قوية.

 

لكن، هل الشك عدو دائم؟ أم أنه في بعض الأحيان! صديق متنكر يعلمك كيف تعيد النظر فيما كنت تعتبره حقائق لا تقبل الجدل؟ لقد كتب ديكارت يوماً: "أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود". لقد جعل من الشك بداية للمعرفة، لا نهايتها، كأن الشك هو ذلك الجسر المهتز الذي تعبره لتصل إلى ضفة اليقين، لا لتظل عالقاً فوقه إلى الأبد، ولكن ماذا يحدث إذا قررت البقاء على هذا الجسر المهتز؟

 

الشك تجربة قادرة على إعادة تشكيل علاقتك بكل شيء من حولك، فعندما يتحول من مرحلة عابرة إلى سكن دائم في الفكر، يصبح لعنة خفية تقوض الثقة التي تُبنى عليها العلاقات!، يبدأ أولاً في داخلك، يهمس لك أنك ربما لا تعرف نفسك جيداً كما تظن!، تشك في قراراتك، وفي اختياراتك، حتى في قيمك التي طالما اعتقدت أنها جزء لا يتجزأ منك، ومع الوقت، يصبح الشك عدسة معتمة تنظر بها إلى كل شيء، فيتلاشى وضوح الصورة، وتبدأ الظلال في التشكل حيث كان النور.

 

ثم يمتد هذا الشك! ليصيب دائرة علاقاتك، فيكون كالملح الزائد الذي يفسد نكهة الحب والصداقة، فقد تشك في نوايا زوجتك رغم دفء نظراتها، وفي إخلاص أصدقائك رغم سنوات المودة، وفي صدق زملائك رغم مواقفهم الصادقة!، فيتحول الشك إلى جدار شفاف يفصلك عن الآخرين، تظن أنك تراهم بوضوح من خلاله، لكنك في الحقيقة ترى انعكاس مخاوفك فقط.

 

أسوأ ما يفعله الشك هو أنه يُفقدك البساطة في التفاعل، حيث كان يكفيك ابتسامة لتشعر بالطمأنينة، بينما تحتاج الآن إلى براهين لا تنتهي، فتصير المحادثات اختبارات، والمواقف اليومية محاكمات صامتة، حتى الحب، ذلك الشعور النقي، يصبح مشروطاً بإثباتات مستمرة لا يقدر عليها أحد.

 

والحقيقة المؤلمة أن الشك لا يعزلنا فقط عن الآخرين، بل يعزلهم عنّا أيضاً، فالناس بطبيعتهم يهربون من الأماكن المليئة بالريبة، لأن الثقة ليست رفاهية في العلاقات، بل هي أساس لا يُبنى شيء بدونه، وعندما تفتقد الثقة، يتحول دفء العلاقات إلى برود غير مبرر!، ومساحات القرب إلى فجوات من الصمت.

 

لهذا، الشك قد يكون جسراً تعبره، لتصل إلى ضفة اليقين، لكن إذا اخترت أن تقيم عليه، ستجد نفسك في مكان لا ينتمي إلى أي طرف!، لا هو جزء من المعرفة، ولا هو جزء من الراحة، مجرد منطقة عالقة بين الخوف والاحتمال، حيث تخسر نفسك أولاً، ثم كل من حولك.

 

المشكلة ليست في الشك ذاته، بل في كيفية التعامل معه!، فهناك من يحتضنه حتى يصبح ظلاً دائماً لا يفارقه، يغذي مخاوفه ويزرع الريبة في كل قرار يتخذه، وهناك من ينظر إليه كمرآة صافية، يرى فيها نقاط ضعفه بوضوح، فيتجاوزها بثقة ويصنع يقينه الخاص، إن الشك في جوهره ليس سوى دعوة للتفكير، لكنه يتحول إلى قيد حين نخشى مواجهته، أو حين نتركه يتضخم دون أن نبحث عن الحقيقة.

 

في أعماق الخوف يكمن الشك، فهما توأمان وُلدا من رحم القلق!، الخوف من الفشل يولد الشك في قدراتنا، والخوف من الخسارة يزرع الشك في نوايا الآخرين، والخوف من المجهول يجعلنا نشك في المستقبل نفسه، لكن المثير للعجب أن اليقين لا يولد! إلا في مواجهة هذا الخوف، علاوة على ذلك، لا يُبنى اليقين على أرض ساكنة، بل على أنقاض الشكوك التي قاومناها وانتصرنا عليها.

 

تأمل قول الشاعر جلال الدين الرومي: "لا تقلق إذا اهتز يقينك، فالجذور القوية تحتاج أحياناً إلى رياح عاتية لتزداد عمقاً". هذا القول يُظهر كيف أن الشك يمكن أن يكون ريحاً تهز أغصان الفكر، لكنها في النهاية تجعل جذورنا أكثر ثباتاً.

 

وللتغلب على الشك، لا بد من فهمه أولاً!، اسأل نفسك: هل هذا الشك يستند إلى دليل حقيقي، أم هو مجرد انعكاس لمخاوفي الداخلية؟ ثم تذكر أن اتخاذ القرارات الحاسمة لا يحتاج إلى يقين مطلق، بل إلى شجاعة تقبل الهفوات المحتملة، فالحياة لا تعطي ضمانات، لكنها تمنحنا فرصاً! لاكتشاف قوتنا في مواجهة الشك.

 

ومن النصائح التي قد تبدو بسيطة، لكنها عميقة الأثر: لا تحاور الشك بصمتك، اكتب أفكارك على الورق، أو تحدث مع شخص تثق به، أو حتى جرب أن تضحك من تلك الأفكار المبالغ فيها!، أحياناً، حين تضع مخاوفك تحت ضوء الكلمات، تدرك كم كانت بلا أساس، فالكلمات تملك سحراً خاصاً!، فهي كالفانوس الذي يكشف تفاصيل ما كان يبدو في الظلام عملاقاً مخيفاً، فإذا به مجرد ظل صغير يتلاعب به خيالك، وحين تكتب شكوكك على الورق، أو تنطق بها بصوت مسموع، تصبح تلك المخاوف أقل هيبة، كأنها تفقد قوتها بمجرد خروجها من حصن الصمت الداخلي.

 

الأفكار التي تعيش في عقولنا دون تفريغ، تشبه الضباب الكثيف الذي يغلف كل شيء، ويجعلنا نظن أننا محاصرون!، لكن عندما نصيغها بالكلمات، نكتشف أن هذا الضباب مجرد بخار هش يمكن أن يتبدد مع أول نسمة منطق!، أحياناً تندهش من بساطة الحل حين تراه أمامك بوضوح، فتسأل نفسك: "كيف كنت أصدق أن هذا الأمر يستحق كل هذا القلق؟".

 

تحدثك مع الآخرين يمنحك فرصة! لمراجعة أفكارك من زاوية مختلفة، ليس لأنهم يملكون كل الإجابات، بل لأنهم يخرجونك من دائرة التفكير المغلقة، كأن عقولنا تحتاج أحياناً، لصدى صوت آخر يعيد ترتيب الفوضى الداخلية، وربما يكون الضحك على تلك الأفكار المبالغ فيها أبلغ وسيلة للتحرر منها!، الضحك يعيد الأمور إلى حجمها الطبيعي، ويخفف من التوتر، ويكشف سخافة بعض المخاوف التي تضخمت فقط، لأننا أخذناها على محمل الجد أكثر مما تستحق.

 

تخيل أنك تحمل حقيبة مليئة بالحجارة، كل حجر منها يمثل شكاً صغيراً، طالما أنك لم تفتح الحقيبة، ستظل تشعر بثقلها وتظن أن بداخلها صخور ضخمة، لكن بمجرد أن تفتحها وتخرج الأحجار، سترى أنها مجرد حصى يمكن نثره بسهولة!، كذلك هي الشكوك، تحتاج فقط لشجاعة المواجهة!، ولاكتشاف حقيقتها الهشة. لذلك، لا تخف من مواجهة أفكارك، ولا تمنحها القوة بالسكوت عنها!، تحدث، اكتب، اضحك، وستكتشف أن الكثير مما كان يزعجك لم يكن سوى وهم صنعه خوفك من النظر إليه مباشرة.

 

العقل، بطبيعته، لا يحب الفراغ!، لا في الأفكار، ولا في المشاعر، ولهذا، يخلق هذا الحضور الخفي للشكوك، ليشعر بالأمان في وجه الصمت، فبدلاً من ترك الفراغ يغمرنا، علينا ملؤه بالمعرفة والتجربة.

 

في النهاية، ليس الهدف أن نعيش بلا شكوك، بل أن نعرف كيف نمر بها دون أن نفقد أنفسنا، وأن نجعل من كل لحظة ارتياب فرصة جديدة! لفهم أعمق لذواتنا!، الشك قد يطرق أبوابنا دائماً، لكن الخيار لنا: إما أن نتركه يدخل ويحتل أفكارنا، أو أن نقف بثقة ونقول له: "شكراً على الزيارة، لكنني أعرف طريقي الآن".

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...