الاثنين، 10 فبراير 2025

رقصة الزمن: بين همس الماضي وأفق المستقبل ونبض الحاضر!

 

قال الشاعر طاغور: "لا تقلق بشأن الأمس، فهو مجرد حلم. ولا تقلق بشأن الغد، فهو مجرد رؤية. ولكن عِش اليوم جيداً، ليصبح كل أمس حلماً سعيداً، وكل غدٍ رؤيةً للأمل". هذه الكلمات ليست مجرد نصيحة عابرة، بل هي دعوة لفهم أعقد ما في حياتنا: الزمن.

 

الحياة، في جوهرها، رقصة بين هذه الأبعاد الثلاثة: الماضي الذي يهمس لنا من خلف الستار، والمستقبل الذي ينادينا من بعيد، والحاضر الذي نحاول جاهدين أن نعيشه دون أن يتسرب من بين أيدينا كالماء!، ربما لا يكون من الضروري أن نفكك هذا التعقيد بقدر ما هو مهم أن نقبله، لأن في قبوله يكمن الفهم العميق لتجربتنا الإنسانية.

 

تخيل أن الحياة مسرح، والماضي كخلفية لا تختفي تماماً مهما تغيرت المشاهد!، نسمع صدى لحظاته في تفاصيل يومنا: في أغنية عابرة تذكرنا بموقف قديم، أو في رائحة تعيد إلينا دفء بيت طفولتنا، لذا لا نستطيع الهروب من الماضي، لأنه ليس مجرد أحداث مضت، بل هو جزء من نسيج وعينا، ينساب في مجرى أفكارنا، يشكل ردود أفعالنا، وأحياناً، يحدد قراراتنا دون أن ندرك.

 

أما المستقبل، فهو ليس فقط صفحة بيضاء ننتظر أن نملأها، بل هو أيضاً القوة الدافعة خلف طموحاتنا، والأفق البعيد الذي لا نراه بوضوح، لكنه يلمع دائماً في طرف العين، لذا نحلم ونخطط ونخاف أحياناً، لأن في كل حلم يكمن احتمال ألا يتحقق، وفي كل خطة احتمال أن تتغير، فالمستقبل مساحة الاحتمالات، حيث يختبئ الأمل والخوف في آنٍ واحد!، نصنع أحلامنا كما ينحت الفنان تمثاله، ونحاول أن نمنحها تفاصيل دقيقة، ونصوغها من رغباتنا العميقة، ونحمّلها أمنياتنا غير المنتهية.

 

أحياناً يكفي مجرد خاطر عابر ليشعل فينا رغبة عارمة، وأحياناً أخرى، نصمت أمامه كمن يقف على حافة طريق لا يعرف إلى أين يؤدي، فالمستقبل ليس مجرد وقت لم يأتِ بعد، بل هو حاضرٌ مؤجلٌ نحمله في عقولنا، ونكتب قصته قبل أن تتحقق على أرض الواقع، ونلوّن تفاصيله وفق ما نطمح إليه، أو ما نخشى مواجهته، وكأننا نحيا في سباق دائم بين ما كان وما سيكون، فنغفل خلاله عن اللحظة التي نعيشها الآن. قال نيتشه: "من يملك سبباً ليعيش، يمكنه تحمّل أي شيء".

 

الحاضر، ذلك الكائن المراوغ، لا يستقر بين أيدينا طويلاً، وهو اللحظة التي ما إن نحاول الإمساك بها حتى تصبح ذكرى، وهو أيضا ليس دائماً هدوء التأمل أو سكينة الإدراك، بل هو غالباً ضجيج الأفكار، وصراع الالتزامات، ومحادثات عابرة، وساعات عمل، ولحظات نلهو فيها لننسى ثقل التفكير ذاته!، فنحن نعيشه، لكننا في الغالب نفكر فيما مضى أو فيما سيأتي، حتى يبدو وكأن اللحظة الحقيقية الوحيدة هي تلك التي لا نفكر فيها على الإطلاق.

 

في أعماق الذاكرة، حيث يستقر الماضي كصندوق قديم يحتفظ بكنوزه الخاصة، نجد أنفسنا نعود إليه مراراً وتكراراً، كأن فيه شيئاً ما لا يكتمل إلا بتذكره!، أحياناً نعود دون سبب واضح!، مجرد عطر عابر، أو نغمة قديمة، أو حتى صمت يشبه صمتاً آخر.

 

إن الماضي، رغم أنه مضى، يظل حاضراً بذكرياته، وببصماته التي تركها على تفاصيلنا اليومية، كظل لا يغيب حتى في أشد لحظات وضوح النور، فلا يمكنك الهروب منه، ولا تحتاج حتى لمحاولة ذلك، فهو هناك، في نظرة عابرة، أو في كلمة غير مقصودة!، نحن لا نحمل فقط الذكريات، بل نحمل ما شكلته فينا من مشاعر، ومن دروس، ومن شوق لما كان، أو ربما ندم على ما لم يكن، وربما، أحياناً، لا نحتاج لفهم كل شيء!، يكفي أن نشعر. قال الروائي مارسيل بروست: "الماضي الحقيقي هو الذي نحمله في داخلنا، لا الذي تركناه خلفنا".

 

لكن، هل يمكن للماضي أن يكون أكثر من مجرد صندوق ذكريات؟ هل يمكنه أن يكون وقوداً للحاضر ودافعاً للمستقبل؟ ربما يكمن الجواب في كيف ننظر إليه، فليست كل الذكريات عبئاً، وليست كل الأحلام هروباً!، فالماضي يعلمنا ويشكلنا، لكنه لا يحددنا إلا إذا سمحنا له بذلك، أما المستقبل فهو ليس مجرد سراب، بل هو فرصة لتصحيح المسار، ولتحقيق ما لم نستطع بالأمس.

 

الغريب أن التفكير في المستقبل يعيدنا إلى الماضي أحياناً!، نخطط لما هو قادم بناءً على ما تعلمناه، ونخشى الفشل لأننا تذوقنا مرارته، ونسعى للنجاح لأننا ذقنا حلاوته!، حتى أحلامنا، تلك التي نظن أنها جديدة، غالباً ما تكون امتداداً لرغبات قديمة، أو استجابة لتجارب عشناها.

 

وفي هذا التشابك بين ما مضى وما سيأتي، يبقى الحاضر هو اللحظة الوحيدة التي نملك حقاً أن نعيشها!، ربما لن نستطيع أبداً فصل هذه الأبعاد الثلاثة بوضوح، لكن ربما يكمن سر الحياة في هذا التداخل ذاته. قال الكاتب جيمس جويس: "الحاضر ليس إلا ماضٍ لم يكتمل بعد". وربما لهذا السبب، لا يحتاج الحاضر لأن يكون خالياً من التفكير، بل أن يكون مليئاً بالوعي.

 

نحن لسنا فقط حصيلة ما عشنا وما نحلم به، بل نحن كل ذلك وأكثر!: نحن اللحظة التي نفكر فيها، والشعور الذي يتسلل إلينا دون سبب واضح، والفكرة التي تولد في قلب انشغالنا، ونحن أيضا، ماضٍ يهمس، ومستقبل يلمع في الأفق، وحاضرٌ نحاول ألا نفوّته، والسر ربما ليس في السيطرة على هذا التعقيد!، بل في الرقص معه بخفة، كما لو كانت الحياة نفسها موسيقى لا تحتاج دائماً لأن نفهمها، ثم نستمتع بها.

 

وفي خضم هذا التفاعل بين الماضي والمستقبل، يقف الحاضر كجسر هش، لا نكاد ندركه حتى يتسرب من بين أصابعنا، فنحن نعيش الحاضر غالباً دون أن ننتبه له، منشغلين بالتفكير فيما حدث أو بما سيحدث، فالحاضر ليس سوى سلسلة من اللحظات التي نمر بها ونحن نفكر بشيء آخر!، قد يكون انشغالاً بمهام العمل، أو زيارة اجتماعية، أو حتى لحظة صمت عابرة يغزوها تفكير عميق في شيء ليس الآن، وكأن الحاضر يخشى أن يكون مجرد نفسه، فيلجأ إلى الاحتماء بالماضي، أو الاحتمال بالمستقبل.

 

لكن أحياناً، يكفي موقف بسيط ليوقظ وعينا، ويجعل من الحاضر تجربة فريدة!، تخيل كوب قهوة في صباح بارد، حيث يتصاعد منه بخار خفيف كضوء خافت يتراقص في الهواء!، لا شيء يحدث حقاً، سوى أنك تمسك الكوب، وتشعر بحرارته بين يديك!، فلا أنت تفكر في الأمس، ولا تقلق بشأن الغد، فقط أنت، ورائحة القهوة، ودفء اللحظة!، أو لحظة أخرى، حين تمشي على شاطئ البحر، وصوت الأمواج يتكرر كنبض هادئ يذكّرك بأن الحياة تحدث الآن، لا في أي مكان آخر.

 

الوعي الحقيقي ليس حالة ذهنية معقدة، بل هو القدرة على ملاحظة تفاصيل بسيطة: ضحكة طفل، أو نسمة هواء باردة، أو دفء يد تصافحك، فهذه اللحظات لا تحتاج لتحليل أو تفسير، إنها فقط موجودة لتُعاش، وربما في تلك اللحظات تحديداً، ندرك أن الحاضر ليس مجرد عبور بين زمنين، بل هو الحياة نفسها في أنقى صورها.

 

لكن، هل يمكن للماضي أن يكون حافزاً للحاضر والمستقبل؟ بلا شك، ذكرياتنا ليست مجرد صور باهتة، إنها دروس وتجارب وصدى لحظات صنعت من نحن الآن، فالنجاح الذي حققناه ذات يوم يمنحنا ثقة جديدة، والفشل الذي واجهناه يعلمنا كيف نتجنب السقوط مرة أخرى، وهذا الماضي يمكن أن يكون معلماً صارماً أو صديقاً حكيماً، لكنه دائماً ما يؤثر في قراراتنا الحالية.

 

أما المستقبل، فالتفكير فيه ليس مجرد هروب من الحاضر، بل هو أحياناً المحرك الأقوى لنا!، نخطط، ونحلم، ونسعى لأن نصبح أفضل، وهذا الطموح يجعل من الحاضر ورشة عمل دائمة، نحاول فيها بناء ما نريده أن يكون، لكن الغريب أن هذا الانشغال بالمستقبل قد يعيد تشكيل رؤيتنا للماضي أيضاً، فقد ننظر إلى ذكرياتنا بعيون جديدة، فنكتشف معاني لم نكن نراها من قبل، فقط لأننا نعلم الآن إلى أين نحن ذاهبون.

 

ربما في نهاية المطاف، لا تكون المسألة في فهم العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل بقدر ما هي في إيجاد التوازن بينها!، أن نحتفي بذكرياتنا، ونحلم بأحلامنا، ونعيش لحظتنا هذه كما لو كانت أهم ما لدينا، لأن الحقيقة هي: هذه اللحظة، الآن، هي كل ما نملك حقاً، ربما لهذا قال إيكهارت تول: "الحاضر هو الحياة ذاتها، إنه كل ما كان موجوداً يوماً وكل ما سيكون". فهل نعيش الحاضر حقاً، أم أننا مجرد عابرين بين صفحات ماضٍ كتبناه، وأحلام مستقبل لم نصل إليه بعد؟ ربما يكمن السر ليس في الإجابة، بل في أن نطرح هذا السؤال كل يوم.

 

جهاد غريب

فبراير 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...