الأحد، 9 فبراير 2025

 

أفكارنا في ألسنة الآخرين: حكاية الفكرة التي نسيت اسم صاحبها!

 

كثيراً ما نخوض حوارات يومية نعتقد أنها ستُحفر في الذاكرة، غير أن الذاكرة نفسها تحب أن تلعب لعبتها الخاصة!، إذ يحدث أن أتحدث مع زوجتي عن فكرة ما، ثم تمر الأيام، وربما الأشهر، لتعود إليّ بنفس الفكرة، لكن ليس منسوبة لي. تقول، بابتسامة عابرة: "أخي قال أمس كذا وكذا"، وأجد نفسي مأخوذاً بدهشة صامتة!: ألم أقل هذا الكلام قبلاً؟ لماذا يبدو وكأنه يُقال لأول مرة؟

 

هذا ليس مجرد حادث عابر، فقد تكرر الأمر ذاته في العمل!، إذ ناقشت فكرة مع زميل، وبعد فترة عاد ليعرضها عليّ، وكأنها اكتشاف جديد، منسوبة هذه المرة لزميل آخر!، في البداية، راودني الظن أن للعلاقات والمكانة دوراً: ربما لأن الزميل الآخر في موقع وظيفي أعلى، فاكتسبت كلماته سلطة أكبر، لكن، كيف نفسر ذلك مع شريك الحياة، حيث لا توجد هرمية رسمية، بل علاقة يومية عميقة؟

 

في علم النفس، تُعرف هذه الظاهرة بـ"سوء نسبة المصدر" (Source Misattribution). العقل البشري لا يخزن المعلومات مثل أرشيف منظم بدقة، حيث تُلصق كل فكرة ببطاقة تعريف تحدد مصدرها وتاريخها، بل إنه يعمل بطريقة أكثر تعقيداً وأقل صرامة!، فيُخزن شذرات من الأفكار، ومقتطفات من المشاعر، وصوراً عابرة، كل ذلك في فسيفساء غير مرتبة، تختلط فيها التجارب مع الأصوات، وتنصهر الذكريات مع الانطباعات، وعندما تُستدعى فكرة مخزنة، قد تستيقظ في الذاكرة كوميض ضوء في غرفة مظلمة، لكن دون أن يصحبها اسم من أوقد تلك الشرارة، كأن العقل يحتفظ باللحن، وينسى اسم العازف.

 

هذا الخلل ليس عيباً في الذاكرة، بل جزء من طبيعتها البشرية المعقدة، فعندما نستمع إلى فكرة أو نتبادل حديثاً، لا يتم تخزينه كملف مكتمل التفاصيل، بل يُفكك إلى عناصر صغيرة: معنى، شعور، نبرة صوت، وحتى تعبير وجه المتحدث. لاحقاً، عندما تظهر الفكرة مجدداً، يعيد العقل تركيبها، لكن دون ضرورة أن يستعيد كل تفاصيل المشهد الأصلي، ولهذا قد تبدو الفكرة مألوفة، لكن دون أن نستطيع تحديد من أين جاءت أو من قالها أول مرة.

 

في بعض الأحيان، يتدخل العقل الباطن ليملأ الفجوات، فينسب الفكرة إلى شخص أكثر حضوراً عاطفياً في تلك اللحظة، أو إلى موقف حديث يعزز تذكرها، حتى وإن لم يكن هو مصدرها الحقيقي!، قد يحدث ذلك لأن الذاكرة تعمل وفقاً لما يُعرف بـ"مبدأ الألفة"!، فكلما كان الموقف أو الشخص أكثر ارتباطاً بلحظتنا الحالية، زادت احتمالية أن ننسب إليه الأفكار المألوفة.

 

تخيل الأمر كأنك تسمع لحناً جميلاً في مكان مزدحم، ثم تعود إلى منزلك وأنت تدندن به، معتقداً أنك سمعته في فيلم شاهدته مؤخراً، بينما الحقيقة أنه تسلل إلى أذنك من مقهى مزدحم عابر، إذ لا يتعلق الأمر بنسيان متعمد، بل بطريقة عمل الذاكرة التي تختار أحياناً أن تحتفظ بالأثر، وتترك تفاصيل المصدر خلفها!، وهذا ما يجعل الأفكار تسافر بحرية بين العقول، دون أن تحمل جواز سفر يحدد أين وُلدت لأول مرة.

 

ربما تلعب الألفة دوراً آخر في هذه المعادلة. يقول الفيلسوف الفرنسي مونتين: "العقل لا يحتفظ إلا بما يثير دهشته". الأفكار التي تأتي من أشخاص نراهم يومياً قد تفقد بريق المفاجأة، فتندمج بسلاسة في نسيج الذاكرة وكأنها جزء من وعينا الذاتي، أما عندما نسمع الفكرة ذاتها من شخص نلتقيه نادراً، فإن وقعها يبدو جديداً، فتُمنح هوية خاصة مرتبطة بذلك الشخص.

 

ثمة جانب آخر أكثر خفاءً: تأثير العاطفة في ترسيخ الذكريات، قد لا يتعلق الأمر بقيمة الفكرة نفسها، بل بالسياق العاطفي المحيط بها، فالذاكرة ليست مجرد خزانة تحفظ المعلومات بترتيب منطقي، بل أشبه بلوحة فسيفساء تتداخل فيها التفاصيل مع المشاعر.

 

كلمات تُقال في لحظات عادية تمرّ مرور الكرام، وكأنها ضوء خافت في وضح النهار، بينما تُصبح ذات الكلمات مؤثرة إذا قيلت وسط حوار حماسي، أو في موقف غير معتاد، كوميض برق في عتمة ليل.

 

العاطفة تمنح الكلمات وزناً إضافياً، تجعلها تتشبث بذاكرة السامع بقوة، ليس لأن الفكرة جديدة، أو عميقة بالضرورة، بل لأن اللحظة ذاتها كانت مشبعة بطاقة شعورية حفرت أثراً لا يُمحى، ولهذا نجد أن نصيحة صديق قيلت ونحن في قمة الحزن قد تعلق بذاكرتنا أكثر من درس عميق تلقيناه في صف جامعي هادئ. ليست الفكرة هي ما يخلّد، بل الصدى العاطفي الذي تُحدثه في الداخل.

 

وربما كان الأمر أبسط مما نظن: يقول "مارك توين" ساخراً: "الذاكرة هي الطريقة التي يختار بها العقل نسيان التفاصيل غير المهمة". لكن ما هو غير مهم بالنسبة للذاكرة، ليس بالضرورة كذلك بالنسبة لنا، فالذاكرة لا تحتكم دائماً لمعايير المنطق، أو الأهمية الفعلية، بل لما يبدو ملائماً للحظة الحاضرة، أو للحالة النفسية التي نعيشها.

 

قد ينسى العقل تفاصيل دقيقة من حديث عميق مع شخص مقرب، لكنه يحتفظ بعبارة عابرة قالها غريب في محطة انتظار، فقط لأن تلك اللحظة توافقت مع شعور معين كان بداخلنا، فالذاكرة انتقائية بطبعها، تلتقط ما تريد وتترك ما تشاء، وكأنها مصوّر فوتوغرافي لا يهتم بإطار الصورة بقدر ما يهتم بالضوء الذي ينعكس عليه، وربما في هذا الانتقاء، يكمن سرّها وسحرها!، فهي لا تحفظ الماضي كما كان، بل كما شعرنا به.

 

في النهاية، لا يتعلق الأمر بمن قال الفكرة أولاً بقدر ما يتعلق بكيفية استقبالها، فالأفكار تشبه البذور الصغيرة!، قد تزرعها في تربة ما، لكنها لا تنمو إلا عندما تجد الأرض الخصبة التي تمنحها الحياة، ربما لا يحتاج الأمر لأن نشعر بالإحباط عندما تُنسى مساهماتنا، أو عندما تُنسب أفكارنا لآخرين، لأن الحقيقة البسيطة هي أن الأفكار ليست ملكاً لأحد، إنها طيور حرة، تطير من رأس إلى آخر، لا تعترف بالحدود ولا تقف عند أسماء بعينها، تبحث فقط عن نافذة مفتوحة لتحلّق منها، وعن عقل دافئ لتستقر فيه.

 

فربما يكون دورنا أحياناً مجرد أن نكون محطة عابرة لهذه الطيور، نمنحها دفعة خفيفة لتواصل رحلتها، وما يهم ليس أن نُخلد كصانعي الفكرة، بل أن نكون جزءاً من مسارها، من رحلتها نحو النضج والتأثير.

 

الأفكار لا تعيش في الذاكرة بقدر ما تعيش في تأثيرها على الآخرين، لهذا، عندما تجد كلماتك صدى في قلب شخص آخر، حتى وإن لم يذكرك كصاحبها، فقد أنجزت الفكرة مهمتها، وأنت بدورك كنت سبباً في ذلك.

 

ومع ذلك، لا يمكن إنكار ذلك الشعور الخافت الذي يتسلل أحياناً إلى القلب: شعور بالحزن الخفيف، وربما بالخذلان، حين ترى فكرة خرجت منك يوماً تلمع في حديث الآخرين دون أن يُذكر اسمك، إنه إحساس يشبه رؤية رسالة كتبتها بحبر قلبك، لكنها وصلت إلى يد أحدهم بلا توقيعك، فيتردد في الذهن سؤال صامت: "ألم يكن من العدل أن يُقال: هذا قولي؟"

 

لكن الحقيقة أن هذا الحزن، رغم وجاهته، لا يستحق أن يكون أكثر من عابر طريق في وجدانك، لأن الفكرة، عندما تُولد، تصبح كائناً مستقلاً، لا يحتاج لأن يُشدّ دائماً إلى جذوره، وهنا تكمن النصيحة: لا تمنح هذا الحزن مساحة أكبر مما يستحق، ولا تجعل غياب اسمك عن الفكرة يقلل من قيمتها أو من قيمتك، فالعطاء الحقيقي لا ينتظر التصفيق، والمساهمة الصادقة لا تحتاج لإعلان ملكيتها.

 

تذكر أن الأثر الحقيقي لا يُقاس بمدى تكرار اسمك، بل بمدى تأثير كلماتك في عقول وقلوب الآخرين، والفكرة التي تجد طريقها في حياة الناس، حتى لو فقدت أثر توقيعك، لا تزال تحمل جزءاً منك، من روحك، من اللحظة التي فكرت فيها وأطلقتها إلى العالم، وهذا وحده يكفي.

 

إن التعلق بالمصدر يشبه الإمساك بالماء في قبضة اليد!، ما يهم ليس القبضة، بل الأثر الذي يتركه الماء حين ينساب، ولعل أجمل ما في الأفكار أنها قادرة على تجاوز أسمائنا، لتصبح جزءاً من نسيج إنساني أكبر، لأن ما يخلد في النهاية ليس اسم القائل، بل الفكرة التي استطاعت أن تعبر من شخص لآخر، لتعيش في عقولهم، وربما في حياتهم أيضاً.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...