بين الوهم والخيال:
رحلة في دهاليز الفكر الإنساني!
كثيراً
ما كنت أتساءل عن الفارق الدقيق بين الوهم والخيال، ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما
ويجعلنا نقف حائرين أمام قدرتنا على التمييز.
يبدو الوهم
كحقيقة فقدت بوصلة الدليل، تتشبث بذرات من الرغبة، بينما الخيال هو تلك البذرة التي
نزرعها في تربة عقولنا، لنرويها بالبحث والتجربة حتى تنمو وتثمر، لكن!، هل يمكن أن
يتحول الوهم إلى حقيقة كما يفعل الخيال؟
في كثير
من الأحيان، يأتي الخيال رغماً عنا، يفرض نفسه كزائر غير مدعو، يتسلل إلى أذهاننا في
لحظات الشرود أو الأحلام، دون حاجة لدعوة أو استئذان!، إنه ينبع من أعماق وعينا، فيتحرك
بحرية بين الممكن والمستحيل، يرسم صوراً ويخلق عوالم لا حدود لها.
الخيال
لا يحتاج لمحرك خارجي! يكفيه أن تكون هناك فكرة عابرة، أو مشهد يومي، أو حتى لحظة صمت
ليولد منها حكاية كاملة، أما الوهم، فهو على العكس تماماً، لا ينشأ من تلقاء نفسه!،
بل يحتاج إلى دوافع ومحركات خفية، إنه يحتاج إلى خوف دفين، أو رغبة مكبوتة، أو حتى
حاجة نفسية للهروب من واقع مؤلم.
الوهم
ليس تلقائياً كما هو الخيال، بل هو بناء ذهني نصنعه بوعي أو بغير وعي، نحكم إغلاق أبوابه
أحياناً، لأن الحقيقة في الخارج تبدو أثقل من أن نحتملها، إنه يشبه قناعاً نرتديه لنخفف
من وطأة الواقع، أو ستاراً شفافاً ننسجه بخيوط من أمنيات لم تتحقق وخيبات لم نستطع
مواجهتها.
الوهم
لا ينشأ من فراغ!، إنه نتيجة تفاعل مع مشاعر دفينة كالخوف، أو الحنين، أو حتى الحاجة
للشعور بالأمان وسط عالم يتغير من حولنا بسرعة تفوق قدرتنا على التكيف، فنلجأ إليه
عندما تصبح الحقيقة مرهقة، أو عندما نفشل في إيجاد تفسيرات مقنعة لألم ما، أو عندما
نخشى فقدان شيء عزيز، فنخلق عالماً بديلاً نلونه بألوان نحبها، نعيد فيه ترتيب الأحداث
كما نشاء، ونمنح فيه الأشخاص صفات لم يمتلكوها يوماً، فقط!، لأننا غير مستعدين للاعتراف
بأن الأمور ليست كما نريد، لكن هذا البناء، رغم أنه يبدو مريحاً في البداية، إلا أنه
يتحول مع الوقت إلى عبء ثقيل، وكلما زادت سماكة جدرانه، قلّ الضوء الذي يتسرب إلينا
من الخارج، وازداد الخوف من اللحظة التي قد يتصدع فيها هذا الحصن الزائف، وتنهار كل
الروايات التي أخبرنا بها أنفسنا.
الوهم
مأوى مؤقت يمنحنا مهلة للهروب من مواجهة أنفسنا، لكن كل وهم مؤجل يحمل في داخله موعداً
غير معلن مع الحقيقة، لأن الحقيقة لا تتلاشى مهما حاولنا تجاهلها، بل تظل تنتظر بصبر
خلف الباب المغلق، تعرف جيداً أن الوقت وحده كفيل بفتحه يوماً ما.
تخيلوا
لو أن الأخوين رايت، وهما أورفيل وويلبر رايت، اللذان يُعتبران رائدي الطيران ومخترعي
أول طائرة تعمل بمحرك في التاريخ، استسلما لفكرة أن الإنسان لن يطير أبداً، باعتبارها
وهماً يتحدى قوانين الطبيعة، لكنهما لم يفعلا، لأن الخيال لديهما لم يكن مجرد صورة
عابرة، بل مشروعاً قابلاً للتحقيق.
قبل اختراع
الطائرة، كانت الفكرة خيالاً جريئاً يطوف في الأذهان، لكنه خيال مدعوم بشغف التجربة
والدراسة، وهنا يكمن الفارق!، لأن الخيال يستطيع أن يسلك دروب البحث ليصبح واقعاً ملموساً،
بينما الوهم يظل حبيساً في زاوية مظلمة من عقولنا، يتغذى على الخوف والتمني، دون أن
يملك الجرأة لمواجهة الحقيقة.
يقول أينشتاين:
"الخيال أهم من المعرفة، لأن المعرفة محدودة بينما الخيال يحيط بالعالم".
هذه العبارة تختزل قوة الخيال كأداة لاكتشاف المجهول، فالخيال ليس هروباً من الواقع،
بل هو نافذة نطل منها على احتمالات جديدة، ربما لم تكن لتوجد لولا جرأة التفكير بها،
أما الوهم، فهو أشبه بمرآة مشوشة تعكس لنا صورةً مزيفة للعالم، تمنحنا شعوراً زائفاً
بالأمان، أو السعادة المؤقتة.
لكن، هل
للوهم جانب إيجابي؟ ربما!، أحياناً يكون الوهم ملاذاً نفسياً في مواجهة صدمات الحياة،
كمن يقنع نفسه بأن شخصاً يحبه رغم وضوح العكس، فهو يحتمي بصورة ذهنية جميلة تبقيه صامداً،
حتى لو كانت بعيدة عن الواقع، إلا أن هذا الوهم ذاته قد يتحول إلى سجن، يعيق صاحبه
عن رؤية الحقيقة التي قد تكون أكثر تحرراً مما يتخيل.
الحقيقة
أن الوهم قد يكون قاتلاً ببطء، ليس لأنه يخبئ الحقيقة فحسب، بل لأنه يسلبنا القدرة
على مواجهتها، ويخدر حواسنا تدريجياً حتى نفقد الإحساس بوجودها!، إنه أشبه بغطاء شفاف
نضعه على أعيننا، نرى من خلاله العالم مشوهاً! وفق ما نريد لا وفق ما هو عليه!، ومع
مرور الوقت، يصبح هذا الغطاء أكثر سمكاً، حتى يتحول إلى جدار يعزلنا عن نور الواقع.
الوهم
لا يكتفي بإخفاء الحقيقة!، بل يعيد تشكيلها في أذهاننا بطريقة تخدم رغباتنا أو مخاوفنا،
فيخلق عالماً بديلاً يبدو أكثر راحة، لكنه في الحقيقة هشّ، ينهار عند أول صدمة حقيقية،
والأسوأ من ذلك، أن الاعتياد على الوهم يجعل مواجهته -لاحقاً- أمراً مؤلماً، لأن الحقيقة
التي تجاهلناها طويلاً لا تعود لطيفة عندما تقرر أخيراً أن تكشف عن وجهها.
بينما
يمنحنا الخيال الأمل، يفتح أمامنا آفاقاً جديدة، ويشجعنا على طرح الأسئلة التي قد تقودنا
لاكتشافات عظيمة، والخيال ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو نافذة نطل منها على احتمالات
لم نعشها بعد، ومختبرٌ ذهني نجرب فيه الأفكار قبل أن تصبح واقعاً.
الخيال
مساحة حرة لا تعرف القيود، حيث يمكن لعقل الإنسان أن يحلق فوق حدود المألوف، ليعيد
رسم ملامح العالم كما يتخيله، لا كما هو مفروض عليه، ففي الخيال توجد المغامرة!، مغامرة
الفكر والروح، تلك التي تدفعنا للبحث عن إجابات لأسئلة لم نكن نجرؤ على طرحها، لولا
تلك الشرارة التي أوقدها الخيال بداخلنا.
أما الوهم،
ففيه تكمن الراحة المؤقتة، تلك التي تخدعنا بظل طمأنينة زائف، وتغلف الحقيقة بورق هدايا
جميل يخفي وراءه واقعاً قاسياً!، فالوهم يمنحك شعوراً بالاستقرار، لكنه استقرار هشّ،
سرعان ما ينهار حين تصطدم أوهامك بجدار الحقيقة الصلب.
الوهم
كالسرير الدافئ في صباح بارد!، يمنحك دفئاً لحظياً، لكنه لا يغير برودة العالم خارجه.
وبينما يقودك الخيال إلى استكشاف المجهول بشغف المغامر، يسحبك إلى منطقة راحة قد تبدو
آمنة، لكنها تخفي خلفها ركوداً يقتل فيك روح التغيير.
الفرق
بين الوهم والخيال يكمن في الجرأة: الخيال يتطلب جرأة في التفكير والتجربة، أما الوهم
فيتغذى على الخوف من مواجهة الحقيقة، لهذا، علينا أن نختار أي طريق نسلك، هل هو طريق
الخيال الذي يفتح الأبواب، أم طريق الوهم الذي يوصدها خلف ابتسامة زائفة؟
وفي نهاية
هذا التأمل، أجد أن النصيحة الأهم للقارئ هي: لا تخف من الخيال، فهو بداية كل إنجاز
عظيم، وبذرة تنمو في عقولنا، لتزهر في أرض الواقع!، إذا رُويت بالإرادة والعمل، وهو
تلك الشرارة الأولى التي تشعل نار الاكتشاف والتقدم، وهو الجسر الذي نعبر من خلاله
من حدود الممكن إلى عوالم جديدة لم تُكتشف بعد. احتضنه كرفيق رحلتك، فهو يمنحك الشجاعة
لتتساءل، ويحفزك لتجرب، ويمنحك الأمل حين تبدو الطرق مظلمة.
لكن كن
حذراً من الوهم، لأنه قد يمنعك من رؤية الطريق الحقيقي الذي يستحق أن تسلكه، فهو يشبه
السراب في الصحراء! قد يبدو كأنه ماء يروي عطشك، لكنه في الحقيقة مجرد انعكاس لخداعٍ
صنعه العقل، إنه يستهلك طاقتك، يسرق وقتك، ويحبسك في دائرة من التوقعات التي لا تؤدي
إلا إلى الخيبة، فلا تجعل منه ملاذاً تهرب إليه من مواجهة صعوباتك، بل واجهه بشجاعة،
لأن الحقيقة مهما كانت قاسية، تحمل في طياتها خلاصك من قيود الزيف.
اجعل خيالك
دافعاً للتغيير، وقوة تدفعك لاستكشاف المجهول وتوسيع آفاقك، ولا تجعل وهمك قيداً يكبل
خطواتك نحو النور، لأن الحياة الحقيقية تُعاش في وضوح الرؤية، لا في ظلال الأوهام.
تذكّر
دائماً أن الخيال قد يبني لك أجنحة تحلق بها نحو السماء، بينما الوهم قد يغريك بالتحليق،
لكنه يسقطك حين تكتشف أنك كنت تطير بلا أساس، فاختر أن تحلم، لكن لا تنسَ أن تخطو على
أرض الواقع بثبات.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق