الاثنين، 10 فبراير 2025

حين تُقيد العقول وتُطلق الأوامر: جدلية السلطة والثقة في إدارة الشركات!

 

في عالم الأعمال، تتجسد المفارقة حين يصبح من يملك زمام الشركات هو نفسه من يقيد حركة العقول التي استأجرها لتدير دفة النجاح، وكأن الأمر أشبه بسفينة ضخمة يقف على متنها قبطان ماهر، استُدعي بخبرته وبراعته في الإبحار وسط أمواج السوق العاتية، لكن المالك، الذي لم يمسك دفةً من قبل، يصر على توجيه السير بنفسه، مع أن القبطان هو من يعرف خفايا البحر.

 

يقال: "وظف الأذكى منك، ودع له المجال ليعمل". هذه ليست مجرد نصيحة، بل فلسفة تنبض بالحكمة، لكن كثيراً ما تتبدد هذه الحكمة بين جدران الشركات الخاصة، حيث يصبح المحترف مجرد أداة توجيه، يُستشار دون أن يُستجاب لرأيه، وهنا يظهر الخلل، ليس لأن أصحاب الشركات لا يملكون الحق في التدخل - فهم بلا شك أصحاب القرار الأخير- بل لأنهم لا يمنحون الخبراء المساحة الكافية لتطبيق تجاربهم التي استُدعوا من أجلها.

 

إن الخلل لا يكمن فقط في التدخل، بل في طبيعته!، فحين يتحول القرار من نتاج عقلية جماعية مستنيرة إلى نزوة فردية تستند إلى خبرة سطحية، أو حتى حدس شخصي، فإن النتائج غالباً ما تكون كارثية، والأسوأ من ذلك، عندما تتساقط أوراق الفشل، لا تتجه أصابع الاتهام نحو من رسم الخطط من الظل، بل نحو أولئك الذين نُزعت منهم صلاحية التوجيه الفعلي.

 

في عالم المال والأعمال، قد يظن البعض أن امتلاك الشركة يعني امتلاك الحقيقة المطلقة، لكن القيادة الحقيقية لا تتجلى في القدرة على السيطرة، بل في القدرة على الثقة!، الثقة في العقول التي اخترتها، وفي التجارب التي لم تخضها بنفسك، وفي القرارات التي ربما لم تفهم دوافعها كاملة، لكنها تستند إلى علم وتجربة عميقة، وهنا يكمن التحدي الحقيقي، فبعض أصحاب الشركات قد يصيبهم الغرور، معتقدين أن المال وحده يمنحهم الفهم والبصيرة، لا العقل أو التجربة، ورغم قلة تحصيلهم العلمي، إلا أنهم لا يرون في ذلك نقصاً، بل يعوضونه بإحساس زائف بالكمال! مستمد من ملاءتهم المالية، وكأن الثروة تغني عن الحكمة، أو تعوض عن عمق الرؤية.

 

"القيادة لا تعني أن تكون الأفضل في كل شيء، بل أن تعرف كيف تجعل من حولك يقدمون أفضل ما لديهم". ربما تختصر هذه العبارة لسايمون سينك جوهر القضية، فالشركات التي تزدهر ليست تلك التي يتحكم أصحابها بكل تفصيل صغير، بل تلك التي تمنح المهنيين والمحترفين القدرة على اتخاذ القرار دون خوف من التدخل المفاجئ، أو اللوم غير المنصف.

 

ومع ذلك، ليس كل أصحاب الشركات يسقطون في هذا الفخ، فهناك من يدرك أن دوره ليس أن يكون صانع القرار الوحيد، بل الراعي الذي يخلق بيئة تزدهر فيها العقول وتتلاقح فيها الأفكار، وحين يمنح المالك المحترف الثقة والصلاحية، لا يتراجع دوره، بل يترسخ، فهو بذلك يبني نظاماً قادراً على الاستمرار والنمو حتى في غيابه.

 

تأمّل قصة شركة "أبل" في حقبة ستيف جوبز! لم يكن جوبز خبيراً تقنياً بقدر ما كان قائداً يفهم كيف يجمع العقول اللامعة ويوجهها دون خنق إبداعها!، لقد منح فريقه الحرية لتصميم وتطوير منتجات ثورية، مثل جهاز iPhone وMacBook، التي غيرت وجه التكنولوجيا، وأعادت تعريف طريقة تفاعل الناس مع الأجهزة، لأنه أدرك أن دوره ليس أن يعرف كل شيء، بل أن يخلق مساحة يمكن للآخرين أن يبدعوا فيها.

 

صحيح أن بعض أصحاب الشركات يتعاملون برقيّ وأخلاق مع هؤلاء الخبراء، ويغدقون عليهم رواتب مجزية ومزايا مغرية، لكن هل يكفي المال وحده ليصنع الرضا النفسي؟ إن الخبير، مهما بلغت مكافآته، سيجد نفسه محاصراً بإحساس الخيبة إذا شعر أن قيمته تختزل في أرقام حسابه البنكي دون تقدير حقيقي لرأيه وخبراته، فالعقول لا تزدهر في بيئة تفتقر لروح الفريق الواحد، ولا تنمو في ظل علاقات يغيب عنها التقدير المعنوي والاعتراف بالكفاءة، ومع مرور الوقت، تتحول هذه المشاعر إلى عبء نفسي يدفع الخبير للتفكير جدياً في الاستقالة، ليس هرباً من المسؤولية، بل فراراً من فراغ الدور الحقيقي الذي جاء لأجله، وهنا تتجلى المشكلة!، لأن الخسارة لا تكون فقط في فقدان موظف كفء، بل في فقدان قيمة فكرية كان يمكن أن تصنع الفارق لو مُنحت المساحة الكافية.

 

وفي النهاية، يبقى السؤال: ما الذي يخشاه أصحاب القرار حين يمنحون الثقة؟ هل هو الخوف من فقدان السيطرة؟ أم هو الاعتقاد الخاطئ بأن السلطة تكمن في التفاصيل الصغيرة؟ ربما كلاهما، لكن الحقيقة الثابتة هي أن الشركات التي تدرك أن قوتها في تنوع خبراتها وثراء عقولها، لا تحتاج للسيطرة المطلقة، لأنها تُبني على أساس متين من الثقة المتبادلة.

 

الحكمة ليست حكراً على من يملك، بل هي ثمرة من يجرؤ على الاستماع، والتقدير الحقيقي للعقول التي اختارها، لتكون جزءاً من رحلته، فالشركة الناجحة لا تُقاس فقط بحجم أرباحها، أو عدد الخبراء الذين توظفهم، بل بقدرتها على خلق بيئة تزدهر فيها الكفاءات، وتشعر فيها العقول أن قيمتها تتجاوز الراتب والمزايا!

 

إن منح الصلاحيات ليس تخلياً عن المسؤولية، بل هو تجسيد عميق للثقة التي تمنح الأفراد الشعور بالانتماء والقدرة على التأثير، لأن القائد الحقيقي لا يخشى أن يُنسب الفضل لغيره، بل يدرك أن النجاح الحقيقي لا يتحقق بالسيطرة المطلقة، بل بالتعاون والاعتراف بأن كل عقل مُلهم هو ركيزة من ركائز هذا النجاح.

 

وفي نهاية المطاف، ليست القوة في منْ يصرخ بالأوامر من الأعلى، بل في منْ يستطيع بناء صرحٍ يقف شامخاً حتى في غيابه.

 

جهاد غريب

فبراير 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...