بين اللوم والعتاب والاتهام: مشاعر تتقاطع وطرق
تتباعد!
بين اللوم والعتاب والاتهام، خيط رفيع
يفصل الحكمة عن الجحود، والمحبة عن القسوة، والإنصاف عن الظلم، فكم من كلمة أثقلت
القلب ولم تكن سوى عتاب، وكم من نظرة أطفأت الشعلة ولم تكن إلا لونًا من ألوان
اللوم، وكم من أصبعٍ ارتفع ظنًا أنه ينصف، لكنه لم يكن إلا الاتهام في أبشع صوره.
ما أقسى أن يجد الإنسان نفسه محاصرًا
بين هذه المفاهيم، لا يدري إن كان ما يسمعه عتابًا محبًا، أو لومًا مؤنبًا، أو
اتهامًا جائرًا يختزل مسيرته في لحظة خطأ.
اللوم بطبيعته سلاح ذو حدين، قد يكون
مرآة صادقة تعكس ما أخطأنا به، لكنه قد يتحول إلى قيد يعيق المضي قدمًا، خاصة إن
جاء بصيغة التوبيخ والتقريع لا التصويب والتوجيه.
كثيرًا ما نواجه اللوم بمحاولة
الدفاع، لا لرفض الحقيقة، بل لأن الطريقة قد لا تحتملها أرواحنا.
إن اللائم الحكيم هو من يجعل من
كلماته جسرًا للإصلاح، لا حفرة للسقوط في هاوية الندم.
سقراط قال ذات مرة: "إن اللوم لا
يصلح النفس إذا لم يكن مقترنًا بالحكمة والمحبة"، فكم من قلب انكسر لأن اللوم
جاءه في لحظة ضعف، وكم من علاقة انهارت لأن اللائم لم يفرّق بين العتاب والتقريع،
ولم يدرك أن بعض الجروح لا تحتاج إلا إلى الصمت كي تلتئم.
أما العتاب، فهو الوجه الأكثر حنانًا
لهذا الثالوث، لكنه يبقى سلاحًا حساسًا لا يُجيد استخدامه إلا من كان قلبه مفعمًا
بالرحمة، فالعتاب لغة بين القلوب، لكنه قد يتحول إلى ثقل على النفس إذا ما زاد عن
حده، فيتبدل من وسيلة للتصحيح إلى عبء يرهق الطرف الآخر، حتى يغدو الصمت أكثر راحة
من الكلام.
كثيرًا ما يكون العتاب آخر ما يملكه
المحب قبل أن يقرر الرحيل، وكأنه محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. جبران خليل
جبران يقول: "إذا كثرت عتابك لصديقك، فاعلم أنك اقتربت من فقدانه"، لأن
كثرة العتاب تعني أن الفجوة تتسع، وأن ما كان سهل التفاهم حوله أصبح يحتاج إلى
تفسيرٍ طويل وشاق، وأن القلب لم يعد يتلقى العتاب كدليل على الاهتمام، بل بات يراه
وكأنه تذكير مستمر بالنقص والتقصير.
لكن أكثر ما يوجع في هذه الدائرة هو
الاتهام، فهو القاضي الذي يصدر الحكم دون الاستماع إلى المرافعة، والسهم الذي
يخترق القلب دون أن يمنح فرصة للدفاع، فالاتهام لا يكتفي بأن يضع الإنسان في موضع
المحاسبة، بل يسلبه حقه في تبرير موقفه، فيدخله في معركة غير متكافئة بين التبرير
والصمت، وبين محاولة إثبات البراءة وإدراك أن الشك قد طغى على الحقيقة.
وما أقسى أن يكون الاتهام من أقرب
الناس إلينا، فهنا يصبح الجحود أكثر وضوحًا، ويظهر النكران في أقسى صوره، حيث
تُنسى كل المواقف السابقة وتُمحى كل الذكريات، كأنها لم تكن. يقول نابليون
بونابرت: "لا تفسر ما لا تفهمه بالاتهام، فقد يكون وراء الأمور وجهٌ آخر لم
تبصره بعد"، فكم من علاقات انهارت لأن أحدهم أسرع إلى الاتهام دون أن يبحث عن
الحقائق، وكم من أرواح تثاقلت من العيش لأن الاتهام كان أقسى من الحقيقة نفسها.
ورغم هذا التفاوت بين هذه المفاهيم،
تبقى كلها جزءًا من النسيج الإنساني، فلا يمكن أن تمضي الحياة بلا لوم، ولا يمكن
أن تخلو العلاقات من العتاب، لكن الاتهام يبقى الأكثر خطورة، لأنه لا يفتح بابًا
للحوار بقدر ما يفتح أبواب الشكوك والقطيعة.
وحده اللوم المتزن قد يكون نقطة
إصلاح، ووحده العتاب الحكيم قد يعيد التوازن، لكن الاتهام حين يكون جائرًا، فإنه
كفيل بأن يهدم بناءً استغرق بناؤه سنوات، ومن هنا، يبقى السؤال الأزلي: متى يكون
العتاب رحمة، واللوم نصيحة، والاتهام عدالة؟ الجواب يكمن في نية القلوب، وطريقة
اللسان، ومقدار الرحمة في الكلمات، ففي كل جدلٍ واختلاف، يبقى خيارنا بين الجرح
والإنصاف، بين أن نبني جدارًا أو نفتح نافذة، بين أن نترك أثرًا جميلًا، أو نغرس
سكينًا في خاصرة العلاقة.
وحتى لا نجد أنفسنا عالقين في دوامة اللوم
والعتاب والاتهام، علينا أن ندرك أن للكلمات وقعًا لا يُستهان به، فقد تكون نورًا يضيء
دروب الفهم والتصالح، أو نارًا تحرق جسور الودّ والتواصل، فحين نلوم، لنفعل ذلك بحكمة،
وحين نعاتب، لنكن رفقاء في كلماتنا، وحين نُتهم أو نتهم، فلنبحث عن الحقيقة قبل أن
نصدر الأحكام، فالعلاقات لا تزدهر بالقسوة، بل بالإنصاف والرحمة، ولا تبقى بالمحاسبة
المستمرة، بل بالتجاوز والتفهم.
إن أجمل ما يمكن أن نهديه لمن نحب هو مساحة
آمنة للخطأ والتعلم دون خوف من الاتهام، ونافذة للحوار بلا أبواب موصدة باللوم والتقريع،
فالإنسان ليس معصومًا، لكنه يزهر حين يُعامل بإنسانية، فإن أردنا الحفاظ على من نحب،
فلنختر كلماتنا بعناية، لأن بعض الكلمات قد تبني جسرًا، وأخرى قد تهدم مدينة بأكملها.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق