العفوية: بين سحر البساطة
وغموض الفطرة!
العفوية،
كلمة تبدو سهلة النطق، لكنها تحمل ثقلاً فلسفياً لا يُستهان به، فحين نفكر فيها،
يتسلل سؤال صغير إلى الذهن: هل العفوية هي فقط تلك اللحظة التي نضحك فيها بلا
تصنع؟ أم أنها أعمق من مجرد رد فعل غير محسوب؟ كأنها نهر يجري دون أن يسأل الصخور
عن مكانها، ودون أن يستأذن الأرض في رسم مجراه!، في الحقيقة، العفوية لا تتوقف عند
حدود الحركات الجسدية، أو التعامل مع الأشياء ببساطة، بل تمتد لتلمس أعماق الفكر
والروح، كوميض لا ينتظر التصفيق ليُضيء.
للعفوية
وجوهٌ متعددة، تبدأ من تلك الحركات الجسدية التي تبدو لا إرادية، كابتسامةٍ فاجأت
ملامح وجهك قبل أن تدركها، أو إيماءةٍ تعكس دهشةً صادقة، دون تخطيط أو رقابة!، ثم
هناك عفوية الحديث، التي تنساب من أفواه أشخاص طيبين بطبعهم، يحمل كلامهم دفء
النوايا الصافية وصدق المشاعر، فتجد في كلماتهم راحة لا توفرها أفصح الخطب، أما
عفوية الأطفال فهي المعجزة الحقيقية!، فهم يتحدثون ويتحركون دون خوف من الخطأ،
يضحكون ببساطة، ويبكون بلا خجل، ويعيشون كل لحظة كما لو كانت الكون بأسره.
قد
يُقال إن العفوية بجميع أشكالها صادقة وجميلة، لأنها خالية من التزييف، وتعكس جوهر
الإنسان قبل أن تغلفه طبقات من التصنع، لكنها لا تعني الاختلال أو الانفلات، رغم
أنها تبدو أحياناً كذلك!، هناك خيط رفيع بين العفوية والتلقائية والعادة، فالتلقائية
قد تحمل طابعاً آلياً، ناتجاً عن تكرار سلوك دون وعي عميق، أما العادة فهي نتيجة
ممارسة مستمرة حتى تصبح جزءاً من الروتين، في حين أن العفوية تنبع من لحظة حية،
غير متوقعة، تُولد من صميم اللحظة بلا مقدمات.
قد
نظن أحياناً أن العفوية مرتبطة بالبراءة، لكنها ليست سذاجة، بل ذكاءٌ خفي يُخفي
نفسه ببراعة، فهي القدرة على التصرف دون عبء التفكير المفرط، لكنها ليست خالية من
الوعي!، بل هي وعيٌ عميق يرتدي قناع البساطة. يقول أوسكار وايلد: "كن نفسك،
فالجميع الآخرون قد تم أخذهم". هذه الجملة تحمل في طياتها دعوة للعفوية، لأن
أقسى أنواع التصنع هو محاولة تقليد ما ليس أنت.
لكن، هل
العفوية مشتقة فعلاً من "العفو"؟ ربما!، هناك تسامح خفي في جوهر العفوية!،
تسامحٌ مع الذات، ومع فكرة الكمال، فهي تسمح لنا بأن نكون ناقصين، فوضويين، وأحياناً
غير مفهومين، لكنها تمنحنا صدقاً يصعب العثور عليه في ظل الترتيب المُبالغ فيه، وهناك
جمالية خاصة في أن تتحدث دون أن تفكر في وقع كلماتك، لا لأنك لا تهتم، بل لأنك تثق
بأن الحقيقة لا تحتاج إلى زخرفة.
الغريب
أن العفوية قد تُفهم أحياناً على أنها نقص في التركيز، بينما هي، تعبير عن تركيز
خالص على اللحظة ذاتها، فنحن لا نفكر كثيراً حين نكون عفويين لأننا مشغولون
بالشعور، وبالحضور الكامل، إنها لعبة ذهنية بين العقل والقلب، حيث يتراجع الأول
قليلاً ليمنح الثاني فرصة القيادة.
العفوية
أيضاً مرآة تعكس علاقتنا مع الخوف، فكلما خفنا من الحكم علينا، قلّت قدرتنا على
التصرف بعفوية!، فالخوف يقيد الحركات، يُبطئ الكلمات، ويزرع الشك في أبسط التصرفات،
لكن العفوية الحقيقية تتحدى هذا الخوف، تُجبره على التراجع، إنها تعلن: "أنا
كما أنا، دون أقنعة."
العفوية
تشبه ارتجال موسيقي بارع يعرف كل النوتات لكنه يختار أن يعزف قلبه، وهي نوع من الحرية،
لكنها حرية مسؤولة، وتعترف بأن خلف كل لحظة عفوية، قصة طويلة من التجارب والمشاعر التي
شكلت تلك اللحظة، وربما هذا ما قصده سقراط حين قال: "اعرف نفسك"، لأن معرفة
الذات الحقيقية هي أول خطوة نحو عفوية صادقة، لا تحتاج إلى تبرير.
في
النهاية، العفوية ليست مجرد حالة نعيشها، بل فلسفة تتسلل إلى تفاصيل حياتنا، إنها
توازن دقيق بين الحرية والانضباط، وبين البساطة والعمق!، ولعل أكثر ما يميزها هو
أنها لا تُختلق، بل تُكتشف، لأن العفوية، ليست شيئاً نصنعه، بل شيئاً نعود إليه.
"العفوية
ليست ما نبحث عنه، بل هي ما نجده حين نتوقف عن البحث."
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق