حين تتحول الأسرار
إلى سهام!
في هذا
الكون الفسيح، هناك أسرار لا تُحصى، مختبئة خلف ستارٍ من الظلام، في أعماق المحيطات،
بين طيات الغيوم، وفي المسافات التي تفصل بين النجوم. الكون يحفظ هذه الأسرار دون أن
يبدو عليه الثقل، دون أن يتنفس بضيق كما نفعل نحن حين نخفي شيئاً في قلوبنا، ربما لأن
أسراره ليست خيانة لأحد، أو لأن الكون لا يخشى أن تُكشف، فالسر عنده ليس ضعفاً يجب
ستره، بل لغزاً يدعو لاكتشافه. العلماء يجتهدون، ويدرسون، ويراقبون، ويكشفون قوانين
الجاذبية، وأسرار المادة والطاقة، لكن الكون لا يغضب، ولا ينكسر، ولا يتغير. هل لأن
هذه الأسرار لم تكن يوماً أسراراً بالمعنى الذي نعرفه؟ هل السر يُثقل فقط حين يتعلق
بالبشر، بالعلاقات، بالثقة الممنوحة والمهددة بالخيانة؟
وهنا تبدأ
الحكاية... تبدأ الحكاية بصوتٍ خافت في القلب، صوتٌ لا يُسمع لكن يُحس، صوت السرّ وهو
يتكوّر في أعماقنا، يختبئ خلف الضلوع كضيفٍ ثقيل لا يريد المغادرة، ولا نملك جرأة طرده،
الأسرار ليست مجرد كلمات تُقال في لحظة ضعف أو ثقة، إنها شظايا من الروح، وقطعٌ صغيرة
منّا نودعها في قلوب من نؤمن أنهم سيكونون أكثر أماناً من خزائن الحديد! ولكن، ماذا
يحدث عندما يتحول هذا الأمان إلى خيبة؟
كنت أتساءل
كثيراً عن التاجر الذي يجمع بضائعه من هنا وهناك، مصادر متعددة، وأسرار متعددة، ومع
ذلك يبيعها ببساطة دون أن يشعر بثقل ما عرفه!، هل لأن أسراره من نوع آخر؟ أم لأن ما
يثقل القلوب ليس السر ذاته، بل قيمة من نحمله لأجله؟ فالتاجر يتعامل مع البضاعة، أما
نحن فنتعامل مع الأرواح.
عندما
يحمل الإنسان سر صديقه، يكون كمن يمشي وفي جيبه زجاجة هشة، يعلم أن أي حركة خاطئة قد
تكسرها، وأن الشظايا ستجرح الجميع، بما فيهم هو نفسه، لكن الغريب هو كيف يمكن لهذا
الحمل أن يتحول إلى سلاح في لحظة غضب، كيف يمكن لصديق كان يوماً ما مرآةً لنفسك أن
ينقلب إلى خصم يستخدم ما خبأتَه في قلبه ضدك؟ أي قسوة هذه التي تجعل من صندوق الذكريات
قنبلة موقوتة؟
أتذكر
صديق طفولتي، ذلك الذي كنا نتقاسم معه السندويشات والأحلام الصغيرة، نرسم المستقبل
على جدران خيالنا، كان سرّي عنده مثل كنز دفين، لا خوف عليه. مضت الأيام، كبرتُ وكبر
هو، وتغيرت أشياء كثيرة إلا ثقتي به… حتى جاء ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه أن الكنز قد
نُهب!، لم أفعل شيئاً سوى أنني كنت نفسي، كنتُ أنا، لكن هذا لم يكن كافياً ليمنعه من
فتح الصندوق الأسود، وإفراغ محتوياته أمام أقرب الناس لي.
لم يكن
الألم في السر ذاته، بل في الخيانة التي حملته!، في تلك اللحظة، عرفت أن المسامحة ليست
باباً يُفتح بسهولة، وأن الغفران ليس عملة رخيصة في سوق العلاقات!، أصبحت الذكرى شبحاً
يمر بيني وبينه، لا سلام ولا لقاء، فقط صمت يصرخ بأعلى صوته: "لقد خذلتني".
لماذا
يتحول الصديق إلى عدو؟ لماذا يكون السر هو الجسر الذي نعبره معاً في أوقات الصفاء،
ثم يصبح هو ذاته الخندق الذي يفصلنا في أوقات الخلاف؟ ربما لأن النيات تتغير، وربما
لأن القلوب ليست محصنة كما نظن!، هناك قلوب تُغلق عليها الأسرار كأنها أثمن ما تملك،
وهناك قلوب تبيعها في أول مزاد للخلاف.
قال جبران
خليل جبران: "لا تثق بسر إلى قلبٍ تغيّر عليه المزاج". وهذه الحكمة تختصر
كل شيء! السر ليس مجرد حقيقة نخفيها، إنه رابط غير مرئي بين شخصين، وحين يُفك هذا الرابط،
لا يعود الأمر مجرد خيانة معلومة، بل خيانة للعهد، لخيط الثقة الذي كان يوماً مشدوداً
بين قلبين.
السر مثل
الماء، إذا خرج من بين يديك لا تستطيع جمعه مرة أخرى، فحتى لو سامحت، وحتى لو حاولت
النسيان، يبقى الطين الذي تركه خلفه، يبقى الأثر، وربما لهذا السبب، يصبح الصمت في
بعض الأحيان أكثر وفاءً من أي صداقة. الصمت لا يخونك، لا يستغل ضعفك، لا يحولك إلى
حكاية تُروى في جلسات الغضب.
لكن السؤال
الأعمق ليس عن الأسرار بقدر ما هو عن الأشخاص الذين نختار أن نودعهم هذه الأسرار. هل
المشكلة في السر ذاته أم في المكان الذي اخترنا وضعه فيه؟ ربما السر في حد ذاته لا
يحمل ثقلاً، لكن القلب الذي يحمله هو من يمنحه وزنه الحقيقي. هناك قلوب قادرة على حمل
جبال من الكلمات دون أن تهتز، وهناك قلوب يثقلها همس خفيف.
في نهاية
الأمر، نحن لسنا سوى صناديق أسرار متنقلة!، بعضنا يحفظ ما بداخله حتى النهاية، وبعضنا
يفتح غطاءه عند أول عاصفة، لكن الثابت في كل ذلك هو أن قيمة الصندوق ليست فيما يحويه،
بل في قدرته على الحفاظ على ما بداخله، مهما تبدلت الأحوال.
ولعل أجمل
ما يمكن أن نختم به هو قول سقراط: "تحدث حتى أراك". لكنني أضيف: "واصمت
حتى أثق بك".
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق