الهوية: نبض لا ينطفئ
وأثر لا يُمحى!
الهوية
ليست مجرد بطاقة تعريف، أو كلمات تُخط على ورق، بل هي ذلك الصوت الخفي الذي يناديك
في أعماقك! حين تصمت الأصوات من حولك، هي الوجه الذي تراه في المرآة حين يغيب الجميع،
والخيط الرفيع الذي يربطك بماضٍ لم تعشه بالكامل، ومستقبلٍ لم تصنعه بعد!، الهوية ليست
قناعاً نرتديه في المناسبات، بل هي الجلد الذي لا نستطيع خلعه، حتى لو أردنا، إنها
تلك البصمة التي لا تتكرر، لا على الورق فقط، بل على الروح، وعلى الذاكرة، وعلى كل
خطوة نخطوها نحو المجهول.
في كل
رحلة نخوضها، نكتشف أن الهوية ليست ثابتة كما ظننا، بل هي كالنهر، يتغير مجراه مع كل
منعطف، تسير الهوية معنا في دروب الحياة المتشابكة، وتتبدل تفاصيلها، لكنها تحتفظ بجوهرها،
ذلك الجوهر الذي لا يتغير حتى وإن تبدلت الظروف، ربما نخاف أحياناً أن نفقد هويتنا
إن فقدنا جراحنا، وكأن الألم هو الدليل الوحيد على وجودنا، لكن الحقيقة أبعد من ذلك!،
الهوية ليست ندوباً نحملها، بل هي الضوء الذي ينبعث من بين تلك الندوب، وهي البوصلة
التي تشير إلينا، حتى حين نضيع.
تتجلى
الهوية في أشياء كثيرة: في وطن ننتمي إليه، وفي أهل نتعرف عليهم، وفي أصدقاء نصادفهم،
وزملاء عمل نقتسم معهم ساعات العمر، لكنها تتجاوز كل هذه التعريفات الخارجية! لتصل
إلى سؤال جوهري: من نحن حقاً؟ هل نحن انعكاس للماضي الذي ورثناه، أم أننا صانعو هويتنا
بقراراتنا، وبتجاربنا، وبما نخوضه ونؤمن به؟ كتب محمود درويش: "الهوية بنت الولادة،
لكنها في النهاية إبداعُ صاحبها، لا وراثة ماضٍ". وهذا هو التحدي الحقيقي!، أن
نصنع من هويتنا عملاً فنياً لا مجرد ظل لتاريخ مضى.
الهوية
ليست مجرد انتماء لمكان أو زمن، بل هي حالة مستمرة من الاكتشاف، ربما لهذا السبب نخشى
فقدانها!، لأنها تمنحنا شعوراً بالثبات في عالم يتغير باستمرار، لكن هل تكمن الحقيقة
خلف الهوية، أم أن الهوية نفسها هي التي تصنع الحقيقة؟ سؤال يفتح أبواباً لا حصر لها،
ربما ليست الهوية من تصنعنا بالكامل، بل نحن من نصوغها، ونمنحها شكلها، ونغذيها بمعتقداتنا
وتجاربنا.
حتى الكائنات
الحية تحتاج لهوية، حتى النجوم في السماء لها هوية تميزها وسط العتمة، الكون نفسه يحتاج
لهوية، وإلا لما كانت هناك مجرات تُعرف بأسمائها، وكواكب تدور في مداراتها الخاصة!،
الهوية مثل البصمة، سواء كانت بصمة العين، أو الإصبع، أو الأثر الذي نتركه خلفنا دون
أن ندري، هي ذلك الجزء الفريد الذي لا يمكن نسخه أو تكراره، مهما حاول العالم أن يضعنا
في قوالب جاهزة.
في زمننا
الحالي، صرنا نمتلك هوية رقمية أيضاً، أرقام وحسابات وتعريفات لا تمثلنا حقاً، لكنها
تعكس جانباً منا. هل نحن ما نظهره على الشاشات؟ أم أن الهوية الحقيقية تظل كامنة في
مكان أعمق، حيث لا تصل إليه إشارات الإنترنت، ولا تخترقه عدسات الكاميرات؟ الهوية،
مثل فصل الصيف، تشتد حرارتها حين تسقط أشعة التجربة على روحك بزاوية شبه عمودية، فتتشكل
ملامحك الحقيقية تحت وهج التفاصيل اليومية!، وفي الليل، حين يبرد كل شيء من حولك!،
تبقى جذوة الهوية مشتعلة في أعماقك، وتمنحك دفء الانتماء وسط صقيع العزلة.
الهوية
مثل محور الأرض بالنسبة للإنسان، تدور حولها الأفكار والمشاعر!، وإن فقدت هذا المحور،
ستصبح مثل كوكب تائه في مدار غير مستقر!، تعيش في مد وجزر داخلي لا ينتهي، لكن حين
تجد هويتك، تصبح كالنجم الذي يضيء من ذاته، لا يحتاج لمن يعكس نوره. الهوية ليست مجرد
قطعة من الأرض تضع عليها قدميك، بل مجرة كاملة تسكن داخلك.
كتب لودفيغ
فيتجنشتاين: "الهوية ليست علاقة بين الأشياء الواضحة". وهذا ما يجعلها معقدة
ومتشعبة!، فهي لا تتعلق فقط بما نراه أو نلمسه، بل بما نشعر به، بما نخافه، وبما نحلم
به. الهوية مثل نجم عملاق، يتمدد ويتمدد، لكن إن لم يكن له قلب صلب، قد ينهار على ذاته
في انفجار هائل، ويصبح مجرد بقايا متناثرة في الفضاء، وأنت تحتاج لهوية حتى لا تنفجر
ذاتك!، تحتاج لها لتظل نجماً ساطعاً متماسكاً في عالم يحاول تفكيكك باستمرار.
وحين تغيب
الهوية، يحدث انهيار داخلي صامت، أشبه بثقب أسود لا يمتص الضوء فقط، بل يمتص القدرة
على الفهم، وعلى الانتماء، وعلى الشعور بالثبات، لذلك، كلما شعرت بأنك تبتعد عن ذاتك،
عُد إلى ذلك الجوهر، وإلى قلب النجم داخلك، حيث لا تحتاج لتعريف أو تفسير، يكفي أن
تشعر بأنك موجود، وأن قلبك لا يزال ينبض، وأن روحك لم تفقد جاذبيتها.
الهوية
هي ذلك الضوء المستعر الذي يجعلك ترى نفسك بوضوح، بدونها، أنت مجرد شظايا عابرة في
ذاكرة الكون!، بها، أنت كيان كامل، لا مجرد رقم في سجل طويل من الأسماء، ربما يكون
أهم ما في الهوية هو أنها تمنحك القدرة على الوقوف بثبات حتى حين يتغير كل شيء من حولك،
فهي ليست مجرد تعريف، بل هي الحياة نفسها، بكل ما فيها من تناقضات وصراعات وجمال.
وفي نهاية
هذا التأمل، أقول: الهوية هي الحكاية التي لا تنتهي، والنشيد الذي لا يخبو صوته، مهما
حاول الزمن طمس ملامحه، إنها ذلك الخيط الخفي الذي يربط تفاصيلك الصغيرة بعالم أكبر،
والظل الذي يرافقك حتى في أكثر لحظاتك انطفاءً. الهوية ليست مجرد تعريفٍ عابر، بل هي
أثرٌ يتغلغل في أرواح من نحب، وفي الأماكن التي مررنا بها، وفي الذكريات التي ترفض
أن تُنسى.
وحين تتساءل
يوماً: "من أنا؟"، لا تبحث عن الإجابة في صدى الكلمات، بل في صمت اللحظات
التي تركت فيها أثراً لا يُمحى، وفي القرارات التي شكّلت ملامحك، وفي الضوء الذي يشع
منك، حتى بعد أن ترحل، كأنك نجمٌ لا يرى بريقه، لكنه يمنح السماء اتساعها!، فهويتكَ
هي ما يبقى منك حين يغيب كل شيء آخر، وهي الحقيقة التي تظل نابضة خلف كل زيف، والجوهر
الذي لا يتبدد مهما تبدلت الأقنعة، إنها أنت، بكل ما فيك من تناقض وجمال، من ضعف وقوة،
من انكسار ونهوض.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق