حين تهمس الفكرة: أنا
هنا.. دعني أفكر!
الفكرة…
هذا الكائن غير المرئي الذي يتسلل إلى عقولنا دون استئذان، أحياناً كنغمة موسيقية خافتة
تتسلل عبر نافذة مفتوحة، وأحياناً أخرى كفيضان جارف يقتلع السكون من جذوره. متى تتدفق
الأفكار؟ سؤال قد يبدو بسيطاً، لكن الإجابة عليه تفتح نوافذ كثيرة في عقولنا. تتدفق
الأفكار حين نكون على حافة الحلم، أو في قاع التأمل، أو حتى في خضم انشغالنا بشيء لا
علاقة له بها، وكأنها تعشق المباغتة، تزورنا حين لا ندعوها وتختفي حين نلهث خلفها.
ثم، متى
يجب أن تتوقف الفكرة؟ هل حقاً يمكننا إيقافها؟ ربما لا!، لكننا نحاول كبحها عندما تخترق
حدود الراحة، وعندما تتحول من شرارة إلهام إلى عبء ثقيل!، في لحظات كهذه، نصارعها أو
نحاول إسكاتها، كما لو أن الصمت يستطيع احتواء ضجيجها، ولكن، ماذا لو تركنا الفكرة
تمر دون محاولة تذكرها؟ ماذا لو اعتبرنا أن بعض الأفكار لا تحتاج أن تُكتب أو تُقال،
بل أن تُنسى ببساطة، لتظل حرة، عائمة في الفضاء، لا تحمل اسماً ولا هوية، فقط لأنها
فكرة عابرة؟
ومع ذلك،
ثمة أفكار لا تمر مرور الكرام!، تلك التي تسكنك بدل أن تسكنها!، لا تحتاج لاستدعائها،
فهي تأتيك كضيف غير مدعو، لكنها تبقى كأنها صاحبة البيت. أفكار لا تأتي من الخارج،
بل تنبع من داخلك، من أعماق لم تطأها قدماك من قبل، أعماق لا تحمل أسماء أو خرائط،
لكنها مأهولة بشعور غامض يشبه الضوء الخافت في نهاية نفق طويل، مثل فكرة: "أنا
فكرة" نعم، تأملها جيداً… أنا لست سوى فكرة، كل ما أظنه صلباً حولي ليس سوى بناء
هش من تصورات وتجارب، حتى ملامحي التي أراها في المرآة ليست إلا انعكاساً لصورة رسمتها
فكرة ما في ذهني.
وجودي
فكرة، لا أكثر!، ماذا يعني أن أكون موجوداً؟ أهو إحساس بالوعي؟ أم سلسلة من التفاعلات
الكيميائية في الدماغ؟ أم مجرد فكرة تجسدت صدفة في جسد بشري، تبحث عن معنى لذاتها؟
ربما نحن ظلال فكرة عظيمة نسيها الكون، أو ربما نحن الفكرة نفسها التي تحاول فهم نفسها
من خلالنا. الغريب أن أكثر ما نحاول تعريفه هو أكثر ما يهرب منا: هذا "الوجود"
الذي يبدو مألوفاً ومبهماً في آنٍ واحد.
الحياة…
فكرة!، فكرة قديمة بقدم الزمن، لكنها متجددة مع كل ولادة، مع كل لحظة استيقاظ من نوم
عميق!، الحياة ليست ما نعيشه فقط، بل كيف نفكر فيما نعيشه. هل هي سلسلة من الأيام المكررة؟
أم تجربة فريدة لا تتكرر أبداً؟ لعل الحياة ما هي إلا فكرة معقدة تحاول إقناعنا بأنها
أكثر من مجرد فكرة.
والموت
أيضاً فكرة!، فكرة ثقيلة كأنها حجر كبير في قاع العقل، نخشى الاقتراب منها، لكننا نحملها
معنا في كل مكان، ونتحدث عنها وكأنها حدث بعيد، مع أنها أقرب إلينا مما نظن!، الموت
ليس النهاية كما يقال، بل هو فكرة عن النهاية، ونحن من أعطاها هذا الشكل وهذه الهيبة،
ربما يكون الموت مجرد انتقال من فكرة إلى أخرى، من وعي إلى وعي آخر لا نعرف عنه شيئاً.
حاجتنا
للأسرة… فكرة أيضاً!، فكرة تتجاوز البيولوجيا والجينات، إنها شعور بالانتماء، وبرغبة
دفينة في ألا نكون وحدنا في هذا الكون الواسع!، الأسرة ليست فقط مجموعة من الأشخاص
الذين تجمعهم صلة دم، بل هي فكرة عن الحماية، وعن جذور نغرسها في أرضٍ ما! كي لا نضيع
في رياح العالم!، فكرة بناء أسرة جديدة بدورها رحلة معقدة بين الخوف والرجاء: خوف من
فقدان الحرية، وخوف من الفشل، رجاء في الحب، وفي الاستمرارية، وفي ترك أثر يمتد بعد
رحيلنا.
والأصدقاء؟
هم انعكاس لفكرة احتجنا لتجسيدها!، فكرة أننا لا نستطيع أن نحيا بمفردنا، فالأصدقاء
هم نسخ متعددة من أفكارنا عن أنفسنا، نراهم كما نريد أن نرى أنفسنا أحياناً، وأحياناً
أخرى نحبهم لأنهم مختلفون عنا. نحن لا نحب الشخص بحد ذاته فقط، بل نحب الفكرة التي
يمثلها بالنسبة لنا: فكرة الدعم، أو التفاهم، أو حتى فكرة الصراع الذي يجعلنا أكثر
وعياً بذواتنا.
أما انطباعاتنا
عن الأشياء والآخرين فهي ليست أكثر من أفكار نحملها كمرآة نرى بها العالم، لكن الحقيقة
أن هذه المرآة لا تعكس العالم كما هو، بل تعكسنا نحن!، نحن لا نرى العالم كما هو، بل
كما نحن. كل حكم نصدره، وكل رأي نكوّنه، وكل شعور نختبره تجاه شيء أو شخص، هو في جوهره
فكرة مغلفة بتجربة شخصية، ربما لهذا السبب تتغير أفكارنا بمرور الوقت: لأننا نحن من
يتغير، ومعنا تتغير المرآة التي ننظر بها إلى العالم.
الأفكار
ليست نوعاً واحداً ولا تأتي دائماً في صورة ثابتة!، فهي كائنات ذهنية متعددة الأشكال
والطبائع!، هناك فكرة مكتملة، تأتي بكل تفاصيلها كضوء ساطع لا يحتاج إلى تفسير أو إعادة
تشكيل، وكأنها كانت تنتظر لحظة ظهورها فقط!، تشعر بها وكأنها لوحة فنية قد رُسمت بالفعل،
كل ما عليك هو النظر إليها بتمعن لتفهمها، ثم هناك فكرة مجردة، لمحة بسيطة، ظل شبح
يمر على أطراف وعيك، تحتاج إلى عصف ذهني لتتحول من ومضة خاطفة إلى فكرة واضحة!، وهذه
النوعية من الأفكار تشبه البذور الصغيرة التي تحتاج إلى صبر ورعاية حتى تزهر في النهاية.
وهناك
أيضاً الأفكار السريعة، تلك التي تظهر فجأة! وكأنها قفزت من أعماق عقلك دون مقدمات،
إنها تشبه شرارة البرق!، مجرد ظهورها يكفي لتضيء لك تفاصيل لم تكن تراها من قبل، وهذه
الأفكار تدهشك، ليس لأنها عميقة بالضرورة، بل لأنها تأتي مع حقيبتها الخاصة من التفاصيل،
وكأنها لم تكن تنتظر سوى إشارة للانطلاق.
لكن، بغض
النظر عن طبيعة الفكرة أو شكلها، تظل الحقيقة واحدة!، الفكرة، إذن، ليست مجرد ومضة
عابرة في الذهن، إنها لبنة أساسية في بناء كل شيء نعرفه عن أنفسنا وعن العالم، هي البداية
والنهاية، والرحلة والوجهة، والسؤال والجواب، ونحن لسنا سوى مجموعة من الأفكار المتشابكة،
نحاول أن نفهمها ونفهم أنفسنا من خلالها، وكلما ظننا أننا وصلنا إلى فكرة نهائية، اكتشفنا
أنها مجرد بداية لفكرة أخرى، أكثر عمقاً، تنتظرنا خلف الأفق.
ثم هناك
الأفكار التي تحمل في طياتها عبق التاريخ، فما التاريخ إلا فكرة، خُطت على الورق وحُفرت
في الذاكرة. النصر فكرة، الحدود فكرة، وجواز السفر الذي نحمله بفخر أو نراه قيداً هو
فكرة أيضاً!، كل شيء نؤمن به أو نرفضه، نحتفي به أو نخشاه، هو فكرة في جوهره. الجامعات
التي نلتحق بها، والثقافة التي نعتنقها، وحتى التعايش مع الآخرين أو تقليدهم… كلها
أفكار!، بعضها خلاقة كوميض برق في سماء صافية، وبعضها هدامة كظل لا يفارق الجدار، حتى
لو زال الضوء.
وهنا يتبادر
سؤال: كم فكرة تزور عقلنا في اليوم الواحد؟ وكم منها يستحق أن نصغي له حقاً؟ لا أملك
إجابة دقيقة، لكن ما أعلمه أن بعض الأفكار لا تحتاج سوى نظرة عابرة، فيما أخرى تصرخ
في وجهك لتقول: "استمع إلي!"، وهناك أفكار تحفزنا على إعادة تشكيلها، كقطعة
طين بين أيدينا، نصنع منها أشكالاً جديدة في كل مرة نلمسها.
لكن، ماذا
لو طرحت فكرة مخادعة؟ فكرة تعلم مسبقاً أنها ستثير رفض القارئ!، ماذا لو قلت مثلاً:
"الحرية مجرد وهم"، أراهن أن هذه الجملة وحدها قد تثير اعتراضك، لكن أليس
هذا هو جوهر الفكرة؟ أن تُشعل شرارة التفكير، حتى لو كانت تلك الشرارة هي الرفض؟ ربما
الهدف من بعض الأفكار ليس إقناعك بها، بل دفعك لمعارضتها، لتجد نفسك تفكر بعمق أكبر
مما لو وافقت عليها ببساطة.
لقد قال
ألبير كامو: "كل شيء يبدأ بفكرة" لكن هل كل فكرة تستحق أن تُروى؟ ما أعلمه
أن الأفكار مثل النجوم!، بعضها يلمع في السماء لتراه العيون، وبعضها يلمع في أعماق
الكون حيث لا يصل الضوء!، قد لا نستطيع لملمة كل الأفكار في مقال، وقد لا يستوعب القارئ
كل ما نكتبه، لكن الأهم هو الأثر!، أن يترك المقال فكرة واحدة على الأقل تظل عالقة
في ذهنه، كصوت بعيد لا يتلاشى تماماً.
ربما لأن
الفكرة ليست مجرد كلمات!، الكلمات مجرد قوالب نصوغ فيها ما نعجز عن لمسه بأيدينا،
لكن الفكرة أعمق من ذلك، إنها شيء ينمو في المساحات التي لا تصلها اللغة. هي تجربة،
وشعور، وموقف!، ليست فقط ما نقوله، بل ما نشعر به عندما نصمت، إنها تلك الارتعاشة غير
المبررة عند تذكر موقف مرّ عليه زمن طويل، أو ذلك الانقباض المفاجئ في قلبك عند المرور
بمكان يحمل ذكرى غامضة. الفكرة هي ذلك الضوء الذي لا يُرى، لكنه يسطع داخلك، يضيء زاوية
لم تكن تعلم بوجودها من قبل، وهي ذلك الصوت الخافت الذي يقول لك في لحظة صمت:
"أنا هنا"، صوت لا يحتاج إلى ارتفاع ليكون مسموعاً، يكفي أنه ينبع من داخلك
ليكون أكثر وضوحاً من ضجيج العالم كله.
الفكرة
ليست ضيفاً عابراً، بل مقيم دائم في غرف العقل، أحياناً تدخل كنسمة لطيفة تفتح نافذة
صغيرة على عالم جديد، وأحياناً أخرى تقتحمك كعاصفة لا تمنحك فرصة للهرب!، هي ما يوقظك
في منتصف الليل لتكتب ملاحظة على ورقة قريبة، أو تجعلك تحدق في نقطة بعيدة دون سبب
واضح، إنها تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك فهمت شيئاً عميقاً دون أن تتمكن من شرحه
بالكلمات.
وفي النهاية،
قد لا أكون قد جمعت كل الأفكار التي زارتني أثناء كتابة هذا المقال، فالأفكار مثل الزوار!،
بعضها يطرق الباب بلطف، وبعضها يدخل دون دعوة، وبعضها يمر أمامك ولا تنتبه له إلا بعد
رحيله. حاولت أن أمسك بقدر منها، لكن الأفكار بطبيعتها عصية على الحصر، إنها مثل الماء:
كلما حاولت إحكام قبضتك عليها، انزلقت من بين أصابعك، ومع ذلك، تركت ما يكفي منها لتقول
لك: "الفكرة التي لا تطرق باب قلبك، ستظل دائماً غريبة على عقلك".
قبل أن
أنهي هذا المقال، وهو بحد ذاته فكرة تتنفس بين السطور، وجدتني أمام سؤال محير: هل الأفكار
التي تمر في أذهاننا تعود؟ أم أنها مجرد سلسلة من الخواطر تنساب كالشريط السينمائي،
تمر ثم تختفي دون أثر حقيقي؟ كم أشتاق لمعرفة الأفكار التي كانت تراودني في فترة المراهقة،
وقبلها، وبعدها، وفي مراحل النضج المختلفة!، ليتها تعود، ولو للحظة، حتى أمسك بها،
وأعيد تفكيكها، وأستعرض تفاصيلها، أو على الأقل أحلل تلك البذور الصغيرة من العبقرية
التي ربما نضجت في صمت، دون أن أدرك قيمتها حينها. كم من فكرة عابرة كانت تحمل في طياتها
شرارة إلهام، ضاعت لأنني لم أكن مستعداً لاحتضانها، أو لم أمتلك الوعي الكافي لتقديرها.
لكن، ربما
ليست العودة هي الغاية، وربما الفكرة الحقيقية تكمن في أن بعض الأفكار خُلقت لتكون
عابرة، ولتترك أثرها دون أن تبقى!، وهنا، تنفتح أمامي نافذة أخرى، لأن العقل وحده لا
يكفي لفهمها، فالعقل يحلل، ويفكك، ويقيس، لكنه يحتاج إلى القلب ليشعر بصدقها. الفكرة
التي لا تلامس قلبك تبقى معلقة في الهواء، بلا جذور، أما حين تخترقك، وحين تجد صدى
في داخلك، تصبح جزءاً منك. ليست مجرد فكرة تفكر فيها، بل فكرة تعيشها!، ربما هذا هو
سر الأفكار التي تظل معنا طويلاً: أنها لم تكن يوماً مجرد كلمات، بل كانت دائماً مشاعر
متنكرة في هيئة أفكار.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق