الثلاثاء، 25 فبراير 2025

 

الخيال: رحلةٌ بلا خرائط!

 

الخيال ليس مجرد فكرة عابرة تتسلل إلى أذهاننا في لحظة شرود، ولا هو ظلٌ يتراقص على جدران وعينا، بل هو كيانٌ لا مرئيّ، يعيش بين طيّات أفكارنا، وينبض في عمق وجداننا دون أن يحتاج إلى دعوة، إنه تلك القوة التي تمنحنا القدرة على العبور إلى عوالم لم تطأها أقدامنا قط!، وعلى رؤية أشياء لم تصنعها أيادينا!، والتفاعل مع أحداث لم تحدث سوى في زوايا عقولنا. إنه أشبه بنهرٍ جارٍ لا يطلب منّا سوى أن نغمس أقدامنا فيه لنشعر ببرودته العذبة، أو ربما نترك أنفسنا لننجرف مع تياره، فنكتشف عمقه الحقيقي لا بسحيق أغواره، بل بغموض مجراه المتعرج، حيث لا نعلم ما الذي ينتظرنا خلف كل منعطف، ولا أي ضفة سنبلغها مع كل تدفق.

 

الخيال ليس عن الغوص في قاعٍ بعيد! بقدر ما هو عن الانجراف في تيار لا نملك السيطرة الكاملة عليه، إنه يشبه رحلة على سطح ماء صافٍ في بعض الأحيان، ترى انعكاسك بوضوح، وفي أحيان أخرى يصبح الماء عكراً، فتلمح ظلال أفكارك تتراقص! دون أن تدرك حقيقتها!، وبين هذا وذاك، يمنحك الخيال فرصة لتتأمل، لا لتكتشف نهاية النهر، بل لتعيش تفاصيل الرحلة نفسها، حيث المفاجآت الصغيرة تكمن في كل تموجة، وكل ارتداد خفيف للصوت على صفحة الماء.

 

وربما هذا هو سر الخيال: أنه لا يحتاج إلى أن يكون عميقاً بالمعنى الحرفي، بل يكفيه أن يكون ممتداً، حرّاً، يجري في عروق أفكارنا كالماء الذي لا يعرف السكون. هو تيار دائم الحركة، لا يتوقف حتى حين نحاول تجاهله. كل فكرة نولدها، وكل ذكرى نعيد صياغتها، وكل حلم نؤجله، هو قطرة جديدة تصب في هذا النهر اللامرئي، تشكّل مجراه وتعيد رسم حدوده.

 

وهكذا، يصبح الخيال ليس مجرد حالة عابرة، بل رفيقاً صامتاً لمراحل حياتنا كلها!، أحياناً يهمس لنا برقة، وأحياناً يجرفنا بقوة، لكنه في كل الأحوال، يحملنا إلى أماكن لم نكن لنتخيلها لولا وجوده، فسواء كنا نسبح على سطحه بطمأنينة، أو ننقاد مع تياره في مغامرة غير متوقعة، يبقى الخيال هو ذلك النهر الذي لا ينضب، والذي لا نحتاج إلا للشجاعة لنخطو نحوه، ونترك أرواحنا تنساب معه حيثما يشاء.

 

تتعدد وجوه الخيال، فمنه الجامح الذي يركض دون أن يلتفت للخلف، يُحطّم القواعد ويُعيد رسم حدود الممكن والمستحيل، ومنه الخيال العلمي، الذي يستند على نظريات وحقائق، لكنه ينفلت منها ليخلق عوالم بديلة حيث تتعايش التكنولوجيا مع الفلسفة، ويتحول المجهول إلى مادةٍ قابلةٍ للتصوّر، وهناك الخيال الواقعي، الذي لا يبتعد كثيراً عن الحياة كما نعرفها، لكنه يسلط الضوء على تفاصيل خفية، ويضخم الأحاسيس حتى تبدو كأنها أكبر من الواقع نفسه، ثم هناك خيالٌ خجول، يختبئ خلف ستارٍ رقيق من التوقعات البسيطة، يظهر في لمحةٍ عابرة أو فكرةٍ عابثة تمر بنا سريعاً، لكنه يترك أثراً لا يُمحى.

 

السؤال الذي يظل يُراودني: هل الخيال ابن المعارف والخبرات التي نحملها معنا؟ أم أنه كائنٌ مستقلٌ ينمو ويتطور كما ينمو الإنسان بفكره وتصوراته؟ ربما يكون الخيال في بداياته مجرد انعكاس لما عرفناه واختبرناه، لكن مع الوقت، ومع نضوج الفكر وتراكم التجارب، يصبح الخيال أكثر جرأة، أكثر عمقاً، أكثر قدرة على خلق عوالم لا تحتاج إلى جذور في الواقع. إنه يتطور مثلما يتطور الإنسان، يكتسب معارف جديدة، لكنه يحتفظ بجذوته الفطرية، تلك الشعلة التي لا تنطفئ مهما تراكمت فوقها طبقات الواقع.

 

ما الذي يجعلنا ننجذب إلى الأفلام والكتب التي تدور في فلك الخيال؟ ربما لأننا نبحث عن شيء مختلف، شيء لا تقدمه لنا الحياة اليومية بتفاصيلها المكررة، أو لأن هناك عوالم نؤمن، في أعماقنا، بوجودها، لكننا لا نستطيع الوصول إليها!، إلا عبر تلك البوابة السحرية التي يفتحها الخيال. إن الخيال خليطٌ سريّ، مزيجٌ دقيق لا يعرف وصفةً ثابتة، يمتلكه البعض بالفطرة، ويستدعيه الآخرون بجهدٍ وتأمل، لكنه، في نهاية المطاف، متاحٌ للجميع، شريطة أن نؤمن به.

 

في أوقات كثيرة، شعرت أن الخيال ليس مجرد وسيلة للهروب من الواقع، بل هو طريقة لفهمه بشكل أعمق، إنه الباب الذي ندخل منه إلى عوالم غامضة، قد تكون موجودة بالفعل، لكننا لا نستطيع رؤيتها إلا من خلال عدسة الخيال، ولعل أعظم ما في الخيال أنه لا يُخضع نفسه للمنطق، لا يستأذن قبل أن يحضر، ولا يلتزم بمواعيد محددة، إنه يطرق بابك فجأة، وأنت تحدق في امتداد الصحراء، أو تستمع لصوت المطر يتساقط على نافذتك!، لا يحتاج إلى مقدمات ولا ديباجات!، يكفي أن تترك له المساحة ليتمدّد وينمو.

 

الخيال ليس حلماً، ولا هو مجرد تفكير منطقي واعٍ، فالحلم ينساب بسهولة ثم يتلاشى عند الاستيقاظ، أما الخيال فهو يظل معنا، يتطور ويتغير، يعيد تشكيل نفسه مع كل فكرة جديدة، وربما لهذا السبب يرتبط الخيال بالمشاهد الطبيعية!، لأن الجبال الشاهقة، والأنهار المتدفقة، والسهول الممتدة، تفتح في أذهاننا نوافذ لا نعرف كيف أُغلقت أصلاً.

 

في زحام الحياة اليومية، يحتاج الخيال إلى مساحةٍ صغيرة ليتنفس، أو لحظة تأمل صافية، أو حتى بضع دقائق من الشرود، فهو يُمكّننا من رؤية العالم من زوايا جديدة، ومن ابتكار أفكار لم تكن لتخطر ببالنا! لولا تلك الشرارة التي أوقدها الخيال في عتمة الروتين. إن الخيال لا يعترف بحدود الزمان أو المكان، إنه يتجاوز كل القيود، ويختلط بالذكريات أحياناً، ويستشرف المستقبل أحياناً أخرى، ويمنحنا القدرة على تصور ردود أفعال أحبّتنا في مواقف لم تحدث بعد، أو رسم سيناريوهات لأحداث لن تحدث أبداً، لكنها تمنحنا متعة عابرة أو فكرة عميقة.

 

لكن هل الخيال مرتبط بالتفكير فقط؟ أم هو شيء آخر، ربما وحيٌ من عوالم خفية تتسلل إلى وعينا دون أن ننتبه، كرسالة غير موقعة تصلنا من مكان لا نعرفه، لكنها تحمل في طياتها معنى نشعر به بعمق؟ قد يكون الخيال امتداداً للتفكير، لكنه ليس مقيداً به، إنه لا يخضع لقوانين المنطق ولا يتبع خطوات التحليل المنهجي!، أحياناً يأتي كوميضٍ مفاجئ، كشرارة صغيرة تضيء غرفة مظلمة داخل عقولنا!، يحدث ذلك بعد قراءة رواية تأخذنا بعيداً عن أنفسنا، أو مشاهدة فيلم يوقظ فينا مشاعر لم نختبرها من قبل، أو حتى من مجرد عنوان عابر يثير فينا تساؤلات لم نطرحها يوماً، تساؤلات تعيد تشكيل ملامح أفكارنا دون أن ندري.

 

الخيال ليس فكرة نسجتها عقولنا فقط!، هو حالة شعورية، كأن يكون صدى صوت من عمق الذاكرة، أو همسة خفيفة من عقلنا الباطن!، أحياناً نشعر وكأن هناك فكرة تطوف حولنا، غير مرئية لكنها حاضرة، تنتظر اللحظة المناسبة لتستقر في عقولنا، وربما هذا ما يجعل الخيال يبدو وكأنه وحيٌ، لا بالمعنى المقدس للكلمة، بل كإلهام يأتي من مكان لا نستطيع تحديده، إنه شيء يفوق حدود التفكير الواعي، ينتمي لعالم أكثر غموضاً وثراءً من أي عالم يمكن أن نصفه بالكلمات.

 

وغالباً ما يكون الخيال خادعاً، لأننا نبني عليه توقعات قد لا تتحقق!، نتخيل كيف سيكون شكل الغد، كيف ستتغير ملامح الأشخاص من حولنا، كيف ستسير الأحداث وفقاً لسيناريو كتبناه في عقولنا، ثم نصطدم بأن الواقع ليس له علاقة بما تخيلناه، لكن هذا الخداع ليس سلبياً بالضرورة!، إنه جزء من سحر الخيال، لأنه حتى في خيبة الأمل التي نشعر بها عندما لا تتطابق توقعاتنا مع الحقيقة، هناك درس خفي، هناك متعة اكتشاف أن الحياة أكثر تعقيداً مما كنا نظن.

 

لكنه أيضاً جميل لأنه يمنحنا احتمالات لا حدود لها، فالخيال لا يعرف القيود، يمكنه أن يأخذنا إلى الماضي لنعيش لحظات لم نعشها، أو يقفز بنا إلى المستقبل لنرى ما لم يحدث بعد، ويمكنه أن يحول غرفة ضيقة إلى عالم واسع مليء بالمغامرات، وأن يجعل من فكرة صغيرة كوناً موازياً ينبض بالحياة، إنه مثل نظرية قابلة لأن تثبت صحتها أو خطأها، لكنه، على عكس النظريات العلمية، لا يحتاج إلى دليل. لا يحتاج إلى تجارب معملية أو معادلات رياضية لإثبات وجوده. يكفي أنه موجود في عقولنا وقلوبنا، يكفي أن نشعر به وهو ينساب في أفكارنا، يلون أيامنا بألوان لم نرَها من قبل.

 

الخيال ليس مجرد أداة نستخدمها لفهم العالم، بل هو عالم بحد ذاته!، عالمٌ لا تحكمه القوانين الصارمة ولا الحقائق المطلقة. عالمٌ نكون فيه أحراراً تماماً، نصنع فيه قصصنا الخاصة، ونعيش فيه نسخاً متعددة من أنفسنا، وربما هذا ما يجعل الخيال ضرورياً: ليس لأنه يقدم لنا إجابات، بل لأنه يفتح أمامنا أبواب الأسئلة التي لم نفكر في طرحها أصلاً، هو المساحة التي يمكننا أن نتنفس فيها بحرية، بعيداً عن ضجيج الواقع وضغوط الحياة اليومية.

 

الخيال هو ذلك الحيز الذي نتلمس فيه حدود الممكن والمستحيل، حيث تتقاطع الأحلام مع الواقع، وتتمازج الحقيقة مع الوهم، في مزيج فريد لا يمكن تفسيره أو احتواؤه. الخيال هو التجربة بحد ذاتها، هو المغامرة التي نخوضها دون أن نخطو خطوة واحدة، هو الحياة كما نحب أن نراها، لا كما هي.

 

الخيال ليس معادلة رياضية تحتاج إلى برهان، إنه ذلك الفضاء اللامرئي الذي نصنع فيه قصصاً لا نهاية لها. الخيال يعطينا الحرية لنكون من نشاء، ولنفكر في ما نشاء، دون خوف من أن نكون مخطئين، وربما، في أعظم تجلياته، يكون الخيال هو الوسيلة التي نستخدمها لنفهم أنفسنا والعالم من حولنا بطريقة لا يمكن لأي حقيقة صلبة أن تمنحنا إياها.

 

حين نفكر في الخيال كجزء من حياتنا اليومية، ندرك أنه ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو نافذة مفتوحة تطل على احتمالات لا نهائية، وإعادة تشكيل لهذا الواقع بطريقة تسمح لنا برؤية الجمال في أبسط الأشياء، واكتشاف المعنى في تفاصيل قد تبدو عادية لمن لم يمنح نفسه فرصة التأمل. الخيال ليس ترفاً ذهنياً أو رفاهية فكرية، بل هو تلك القدرة العميقة على إعادة النظر في الأشياء المألوفة بنظرة غير مألوفة، كأن ترى في ظل شجرة قصة، أو في ارتجاف ورقة على الرصيف حكاية لم تُروَ بعد، إنه ذلك الضوء الخافت الذي يلمع في زوايا العقل حين تخبو أنوار الرتابة، يحفزنا لنرى وجوه الأشخاص كما لو كنا نلتقي بهم للمرة الأولى، لنسمع أصواتهم كأنها موسيقى جديدة لم تعزف من قبل.

 

إن الخيال هو تلك المساحة الحرة التي لا يراقبنا فيها أحد، حيث يمكننا أن نكون أنفسنا تماماً، دون تقييد أو حكم. هو الوطن الوحيد الذي لا يُطلب منك فيه جواز سفر أو تأشيرة عبور، يكفي أن تغمض عينيك وتدع قلبك يقودك، إنه المكان الذي تتحرر فيه من الحاجة إلى إثبات أي شيء لأي شخص، بما في ذلك نفسك. في عالم الخيال، لا توجد معايير للنجاح أو الفشل، لأن الفكرة نفسها منجزة بمجرد أن تولد في ذهنك. قد تتخيل مدينة لا تشبه أي مدينة أخرى، أو حواراً مع شخص لم تقابله أبداً، وقد تعيش لحظات لم تحدث ولن تحدث إلا في مخيلتك، لكنها تترك أثراً فيك كما لو كانت جزءاً حقيقياً من تجربتك. الخيال يمنحك الحق في أن تكون أكثر من نسخة واحدة منك، أن تجرب كل الاحتمالات دون خوف من الخطأ، لأن لا أحد يحاسب الأفكار على شغفها أو جنونها.

 

ولعل أجمل ما في الخيال أنه لا يحتاج إلى تفسير!، يكفي أن نشعر به، أن نعيشه، أن نستمتع برحلاته، حتى لو لم نصل إلى وجهة محددة، فالخيال ليس وجهة، بل هو الرحلة نفسها، بكل ما تحمله من انعطافات غير متوقعة، ومناظر خلابة لا تراها العيون بقدر ما تلمسها الأرواح. إننا لا نحتاج إلى أن نفهم الخيال بقدر ما نحتاج إلى أن نمنحه المساحة الكافية ليكون!، هو كنسمة هواء تمر في يوم صيفي حار، لا تسأل من أين جاءت ولا إلى أين ستذهب، فقط تستمتع بمرورها وتدرك بعدها كم كنت بحاجة إليها.

 

الخيال لا يخضع لقوانين الفيزياء، ولا يحترم حدود الزمن، فهو الضيف الذي يدخل دون موعد، ويغادر دون وداع، لكنه يترك خلفه شيئاً لا يُنسى: فكرة، شعور، أو حتى ومضة من الدهشة، ربما هذا هو السبب في أننا نشعر بالحنين أحياناً لأفكار لم نعشها، ولأماكن لم نزُرها، ولأشخاص لم نلتقِ بهم، لأن الخيال كان هناك قبلنا، وسيظل هناك بعدنا، يهمس لنا بأن الحياة ليست فقط ما نراه، بل أيضاً ما نتخيله عنها.

 

في النهاية، قد لا يكون الخيال هو ما نهرب إليه من الواقع، بل هو ما يجعل هذا الواقع أكثر احتمالاً، وهو الخيط الرفيع الذي يربط بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، بين العالم الذي نعيش فيه والعوالم التي تعيش فينا، وعندما نفهم هذا، ندرك أن الخيال ضرورة روحية، تماماً كالحب، كالأمل، وكالحلم.

 

"الخيال هو النافذة التي نطلّ منها على عوالمنا الداخلية، نرى فيها ما لا تراه أعيننا، ونشعر فيها بما لم تختبره قلوبنا بعد."

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

  رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة! في زحمة الحياة، حيث تتهاوى الأحلام كأوراق الخريف على صخور الواقع القاسية، نجد أنفسنا نمدّ أيادينا إلى ا...