الإنسان بين ما
يسمع وما يفعل: رحلة الحكمة والتجربة في الحياة!
في كل
رحلة، هناك مسافة تُقطع، ووقت يمضي، وتغيّر يحدث!، والإنسان، منذ أن يفتح عينيه على
العالم، ينطلق في رحلة طويلة بين "ما يسمع" و "ما يفعل"، وبين
الفكرة التي تطرق سمعه، والفعل الذي يصوغ ملامحه، لكنها ليست رحلة ذات اتجاه واحد،
بل مسار متعرج، تُعاد فيه الخطوات، وتُختبر فيه القناعات، ويعاد فيه اكتشاف الصوت الذي
كان مجرد همس، وتحليل الفعل الذي بدا قراراً محسوماً.
هل نحن
أكثر مما نسمع، أم نحن فقط ما نفعل؟ هذا السؤال يرافق الإنسان في كل مرحلة من حياته،
لكنه لا يجد له إجابة واحدة، بل يكتشف مع الوقت أن التوازن بين الاثنين هو سر النضج،
وأنه لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، فحين يولد، يكون السمع هو البوابة الأولى للحياة،
بوابة يتعلم من خلالها كيف يرى العالم بعيني الآخرين قبل أن يصنع رؤيته الخاصة، ثم،
في شبابه، ينطلق في تمرده، يظن أن الفعل وحده هو الحقيقة، وأن الأذن لم تعد بحاجة لأن
تُصغي، لكنه يعود لاحقاً، بعد أن يجرب، بعد أن يسقط وينهض، إلى السمع من جديد، لكن
بوعي مختلف، وبإدراك أن الحكمة لا تولد من الصوت وحده، ولا من الحركة وحدها، بل من
مزيجهما المتكامل.
في هذه
الرحلة، لا يكون السمع مجرد استقبال، ولا يكون الفعل مجرد إثبات، بل يصبح كل منهما
انعكاساً للآخر، يكملان بعضهما كما يكمل الليل النهار، وكما يكمل الصمت المعنى. ففي
الطفولة، يتداخل السمع مع الفعل، حيث يكون الطفل ظلاً لما يتلقاه، يحاول أن يجسد ما
سمعه في أفعاله البسيطة، وفي الشباب، يحاول أن يتحرر من الماضي، لكن دون أن يدرك أنه
يحمل صدى كل ما سمعه، وفي الكبر، يعود إلى السمع، لا كطفل يتعلم، بل كحكيم يختار، يفرز
الأصوات، ويدرك أن الحكمة ليست في كثرة ما يسمع أو ما يفعل، بل في القدرة على معرفة
متى يصغي، ومتى يتحرك.
وهكذا،
لا تكون الحياة مجرد سلسلة من الأفعال المنفصلة، ولا تكون مجرد تسجيل للأصوات، بل تكون
رقصة متأرجحة بينهما!، نأخذ من الماضي صوته، ونخط في الحاضر أفعالنا، ونترك للمستقبل
صدىً يروي حكايتنا. وبين "ما يسمع" و "ما يفعل"، تمتد المسافة
التي تحدد جوهر الإنسان، لا كمجرد متلقٍ، ولا كمجرد فاعل، بل ككائن يعيش بين الصوت
والصدى، بين الحكمة والتجربة، بين الصمت والكلمات.
المحطة الأولى: حين
يكون السمع هو البوابة الأولى للحياة
يولد الإنسان
صفحة بيضاء، تُخطّ عليها الكلمات الأولى بصوت أمه، وبلمسات أبيه، وبأصوات الحياة التي
تتسلل إلى وعيه الناعم كضوء الفجر. يسمع قبل أن يتكلم، ويتلقى قبل أن يرد، ويراقب قبل
أن يحاول، وكأن الكون كله يتحدث إليه بلغة خفية!، لغة تُصاغ من اللمسات والابتسامات
والنبرات الدافئة.
الطفولة
عالم من "ما يسمع"، حيث تتشكل المعتقدات الأولى، وتنغرس البذور الأولى للأفكار
والعادات، ولكن ليس على هيئة دروس تُلقّن، بل من خلال أصوات العالم القريب. الطفل يسمع
ضحكات أمه عندما يخطو خطواته الأولى، فيتجرأ على السقوط دون خوف!، ويسمع نداء أبيه
وهو يناديه بحنان، فيدرك أن هناك دائماً صوتاً خلفه يحميه. يسمع قصص الجدة قبل النوم،
فتتسع خيالاته وترتسم ملامح أولى لأحلامه.
لكنه لا
يسمع فقط الأصوات الجميلة، بل يتلقى أيضاً همسات الحزن، ونبرات الغضب، وصمت القلق.
يسمع حين يتهامس الكبار عن مشكلات لا يفهمها، فتتسرب إليه المعاني قبل أن يدركها وعيه،
ويسمع التردد في أصواتهم، فيتعلم الخوف، ويسمع الصرامة في عباراتهم، فيتعلم الانضباط،
ويسمع التشجيع، فيتعلم الثقة.
ثم تأتي
اللحظة التي يحاول فيها أن يكون جزءاً من هذا العالم!، يبدأ في تقليد الأصوات، وفي
تكرار الكلمات، وفي تجريب الحركات التي يراها، كأنما يحاول أن يُثبت لنفسه أنه ليس
مجرد متلقٍّ، بل فاعل في هذا الكون الصغير من حوله. يمسك بالقلم محاولاً أن يخط أولى
كلماته كما رآها في يد أبيه، ويرفع يديه مقلداً طريقة حديث أمه، ويبتسم كما تبتسم أخته
الكبرى، كأنه يختبر كل ما سمعه ليعرف ما يمكن أن يتحول منه إلى فعل.
وهكذا،
تمضي الطفولة بين أذن تنصت وعين تراقب، وبين صوت يتردد في الداخل وحركة تحاول أن تجاريه،
وهنا تكمن المفارقة!، فالطفل، رغم أنه يعيش في عالم "ما يسمع"، إلا أنه لا
يكتفي بالتلقي، بل يحوّل السمع إلى فعل صغير، كزهرة تتفتح أولى أوراقها، وكعصفور يحاول
أولى قفزاته خارج العش، وكلما تعلم أكثر، كلما ازدادت المسافة بين ما يسمع وما يفعل،
حتى يصل إلى المحطة التالية، حيث يصبح الفعل هو لغته الأولى، وصوته الخاص الذي يريد
أن يسمعه العالم.
المحطة الثانية: حين
يصبح الفعل هو لغة التمرد والإثبات!
ثم تأتي
العاصفة!، الشباب ليس مجرد عمر، بل هو زلزال داخلي، وطوفان من الأسئلة والأحلام، يدفع
الإنسان للخروج من عباءة "ما يسمع" إلى تمرد "ما يفعل"، وهنا،
لا يريد المرء أن يكون مجرد انعكاس للكلمات التي ملأت طفولته، بل يريد أن يخط بيده
طريقه الخاص، وأن يكون الصوت بدلاً من أن يكون الصدى، وأن يكون القرار بدلاً من أن
يكون المتلقي.
في هذه
المرحلة، تتغير المعادلة!، لم يعد السمع كافياً، ولم تعد الحكمة الموروثة تقنعه، فهو
يريد التجربة، ويريد أن يرى بنفسه، أن يقع ليكتشف كيف ينهض، وأن يغامر ليعرف مدى قدرته
على الصمود. يتمرد على القواعد، لا لأنه يريد الهدم، بل لأنه يريد البناء، بناء ذاته،
وهويته، وصوته الخاص، ولم يعد يرى الكلمات التي سمعها في طفولته كنصوص مقدسة، بل كمساحات
قابلة للتعديل، وللتأويل، وللمراجعة.
الشاب
يقف أمام العالم ويقول: "أنا أفعل، إذن أنا موجود"، لا يكفيه أن يُقال له
إن النار تحرق، بل يقترب منها ليتأكد بنفسه، ولا يكفيه أن يسمع عن صعوبات الحياة، بل
يرغب في مواجهتها بجرأته، وبحماسه، وبرغبته في صنع فارق. يجرب، يخطئ، ويتعثر، لكنه
يشعر بأنه يمسك زمام الأمور، حتى لو كان في داخله يتخبط.
وهنا،
يبتعد عن "ما يسمع"، ويهرب منه، يظنه قيداً، لكنه في الحقيقة، يبني منه دون
أن يشعر، فكل كلمة سمعها في طفولته، وكل نصيحة تلقاها، وكل تجربة رآها في عيون الكبار،
تبقى هناك، في مكان ما داخله، وتظهر في اللحظة التي يحتاجها، حتى لو أنكرها. قد يتمرد
على النصيحة، لكنه يعود إليها بعد حين، وقد يرفض الحكمة، لكنه يعيد اكتشافها بصوته
الخاص، كأنه يعيد ترتيب قطع الأحجية، لا كما وُضعت أمامه، بل كما يراها هو.
وفي لحظات
الصمت، حين تنتهي جلبة التمرد، يدرك الشاب أن كل ما فعله كان امتداداً لما سمعه، لكنه
لم يكن مجرد تكرار، بل كان إعادة صياغة، إعادة تشكيل، إعادة بناء، وهنا، تبدأ ملامح
النضج في التشكل، وتبدأ المسافة بين "ما يسمع" و "ما يفعل" بالتحول
إلى جسر، لا إلى ساحة معركة، ولكن، هذا الجسر لا يكتمل إلا في المحطة التالية، حين
يبدأ الإنسان في العودة إلى السمع، ولكن هذه المرة، ليس كطفل يتلقى، بل كحكيم يختار
ماذا يسمع، وكيف يفسره، وكيف يجعله جزءاً من حكمته الخاصة.
المحطة الثالثة: حين
يعود السمع ليصبح حكمة
ولكن ماذا
بعد؟ ماذا يحدث عندما تتراكم التجارب، وتهدأ العواصف، ويكتشف الإنسان أن أفعاله، مهما
بدت حرة وعفوية، لم تكن سوى محاولات لترجمة ما سمعه يوماً؟ هنا، يعود السمع من جديد،
ولكن ليس سمع التلقي السلبي، بل سمع الحكمة، إنه الإصغاء الذي يأتي بعد ضجيج الفعل،
والإدراك الذي يولد من رحم التجربة، والتأمل الذي لا يسعى للتمرد، بل للفهم.
في
الكبر، حين تنحسر الرغبة في الإثبات، وتتلاشى حاجة الصراخ بأن "أنا أفعل"،
يبدأ الإنسان في الإصغاء بطريقة مختلفة. لم يعد يسمع كي يقلد، ولم يعد يفعل كي يثبت،
بل يسمع كي يفهم، ويفهم كي يختار. صار يزن الكلمات بميزان التجربة، يضع كل فكرة تحت
ضوء الإدراك، ويختبر الأصوات التي تصل إليه، لا بانبهار الطفل الذي يأخذ كل شيء كحقيقة،
ولا بروح الشاب الذي يرفض كل شيء بدافع الاستقلال، بل بوعي الإنسان الذي خبر الحياة
وعرف أن الحكمة لا تكمن في الصراخ، ولا في الصمت، بل في اختيار متى يُنصت ومتى يتحدث،
متى يتحرك ومتى يتأمل.
في هذه
المرحلة، يصير الماضي أقرب، لكنه لا يكون قيداً، بل مرجعاً. الذكريات التي كانت تبدو
مجرد صور عابرة، تتحول إلى دروس، والأصوات التي كانت تُلقى بلا اهتمام، تصبح إشارات
لفهم أعمق. يبتعد الإنسان عن الجلبة، وعن الضوضاء الفارغة، وعن الجري وراء كل شيء،
ويبدأ في الانتقاء. يعرف أن الحكمة ليست في كثرة "ما يسمع"، بل في إدراك
ما يجب أن يسمعه!، وليست في كثرة "ما يفعل"، بل في اختيار ما يستحق الفعل.
يقول الشاعر:
"وما كل ما يُسمع يُؤخذ، وما كل ما يُفعل يُندم عليه، فالحكمة تولد بين الاثنين".
ما بين السمع والفعل…
خيط لا يُرى!
وهكذا،
تبقى الحياة رقصة متأرجحة بين ما يسمع وما يفعل، أحياناً، نميل للأذن أكثر، نحتاج أن
نتعلم، أن نفهم، وأن نفتح قلوبنا للصوت القادم من الخارج، وأحياناً أخرى، نحتاج أن
نكسر الصمت، أن نجرب، وأن نقفز في المجهول بأفعال لم يسبقنا إليها أحد، ولكن الحقيقة
العميقة هي أن الإنسان لا يعيش في أحدهما دون الآخر، فحتى حين نظن أننا في مرحلة الفعل،
فإن أصوات الماضي تهمس في أفعالنا، وحين نغرق في السمع، فإن تجاربنا تحرّك قراراتنا.
نحن دائماً
بين الاثنين، بين تلقي الحكمة وصنع القرار، بين الماضي الذي يتردد في الأذن، والمستقبل
الذي نرسمه بأيدينا، وهذا التداخل ليس ضعفاً، بل هو جوهر الرحلة البشرية، حيث لا يكون
السمع استسلاماً، ولا يكون الفعل تهوراً، بل يكون كل منهما جزءاً من الآخر، كما تكون
الموجة جزءاً من البحر، وكما يكون الصدى امتداداً للصوت.
الخاتمة: المسافة التي
نصنعها بأنفسنا!
قد يبدو
أن الطفولة سمع، والشباب فعل، والكبر عودة للسمع، لكن الحياة أكثر تعقيداً من أن تُختزل
في مراحل جامدة!، نحن نسمع في كل لحظة، ونفعل في كل يوم، لكن الفرق يكمن في كيفية تعاملنا
مع هذه الثنائية، وفي إدراكنا العميق لمعنى ما يصل إلى آذاننا، وما تترجمه أفعالنا.
هل نحن
مجرد صدى لما نسمعه؟ أم أننا نعيد تشكيل الأصوات في داخلنا، نصقلها، ونختبرها، ونخرجها
بشكل مختلف، أقرب إلى حقيقتنا؟ هل أفعالنا استجابة ميكانيكية لما سمعناه يوماً، أم
أنها قرارات واعية تنبع من تجربة ناضجة؟ وبين هذه الأسئلة، يتشكل جوهر الرحلة.
الحكمة
ليست في السمع وحده، وليست في الفعل وحده، بل في فهم التوازن بينهما، في إدراك متى
نكون آذاناً تصغي، ومتى نكون أيداً تصنع، وفي معرفة متى يكون الصمت هو الاستجابة الأعمق،
ومتى يكون الفعل هو اللغة الأبلغ، فالحياة لا تمضي في خط مستقيم، ولا تُعاش بقواعد
ثابتة، بل هي تفاعل مستمر بين ما يدخل إلى دواخلنا وما يخرج منها.
إن المسافة
بين السمع والفعل ليست قدَراً مرسوماً، بل هي مساحة نعيد تشكيلها بأنفسنا، وفق ما نعيشه،
وما نتعلمه، وما نختاره، فكلما أصغينا بحكمة، واتخذنا قرارات واعية، أصبحت خطواتنا
أكثر ثباتاً، وأفعالنا أكثر عمقاً، وحين ندرك أن الرحلة بين "ما يسمع" و
"ما يفعل" ليست مجرد مراحل نمر بها، بل هي الحياة نفسها، نصبح أكثر قدرة
على رسم أصواتنا الخاصة، وعلى صنع أثر يستحق أن يُسمع.
جهاد غريب
نوفمبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق