الخميس، 13 فبراير 2025

 

الضحك… تلك الفوضى الجميلة التي لا تُقاوَم!

 

الضحك… ذلك الاهتزاز اللطيف في الجسد، والموجة الصغيرة التي تعبرنا دون إذن، والصوت الذي قد يكون صافياً كجدول رقراق، أو مجلجلاً كعاصفة مفاجئة، وقد يكون حتى ساكناً، أو مكتوماً، أو مخنوقاً بين الأضلع!، والسؤال: هل الضحك مجرد فعل تلقائي، أم أنه لغة سرية تحمل في طياتها آلاف المعاني؟

 

نحن من نمنح الضحكة ألوانها، نصفها بالصفراء عندما نشعر أنها تحمل خديعة!، ونطلق عليها "ساخرة" عندما تنبثق من تلال الازدراء، ونعتبرها "مصطنعة" حين نحس أنها خرجت من فمٍ لا من قلب، لكن ماذا عن الضحك الحقيقي؟ ذاك الذي ينفجر فجأة دون سابق إنذار، عندما يصبح العقل متواطئاً مع القلب في لحظة نقية؟

 

أحياناً نضحك ونحن مرهقون بعد يوم طويل، كأننا نحاول إعادة تشغيل أرواحنا المنهكة!، نضحك رغم الألم، ورغم الفقد، ورغم الضياع، كأن الضحك في بعض اللحظات يُمارس دوره كآلية دفاعية، وكحاجز هش أمام زحف الحزن، ربما لهذا، قد نجد أنفسنا نضحك في أوقات غير متوقعة، كما لو أن الضحك يأتي أحياناً كزائر متطفل على لحظات الجدية والمآسي.

 

الأمر الذي يحيرني هو أن الضحك ليس دائماً انعكاساً للفرح، قد يكون قناعاً يتوارى خلفه أشخاص أتقنوا فن إخفاء ضعفهم!، هناك من يضحك حين يشعر بالخوف، وهناك من يضحك حين يحاول تفادي مواجهة الحقيقة، وهناك من يضحك ليضع حاجزاً بينه وبين الآخرين، حاجزاً لا يمكن اختراقه بالكلمات!، هؤلاء، إن حاولت أن تكشف لهم أنك قرأت ما وراء ضحكاتهم، ستجد نفسك في معركة عبثية!، سيضحكون أكثر، وستشعر أنك أنت من تبالغ في التحليل، وأنك حساس أكثر مما يجب.

 

ولأننا نعيش في عصر غارق في العجالة، حيث تشتت الانتباه سمة سائدة، بتنا نرى الضحك ينتشر كاستجابة تلقائية لمقاطع لا معنى لها!، أراقب بعض أصدقائي وهم يضحكون على مشاهد سخيفة، وأتساءل: هل الضحك هنا نابع من روح المشهد نفسه، أم من بساطته المصطنعة؟ لماذا نضحك أحياناً على أشياء تافهة، بينما لا يثير فينا شيء ذو معنى سوى الصمت؟ هل أصبح الضحك آلية تشتيت، أو أداة هروب من التفكير العميق؟

 

ومع ذلك، رغم هذا كله، لا يمكن إنكار أن الضحك يظل هدية الإنسان لنفسه، حتى الفلاسفة، رغم جديتهم الظاهرة، لم يغفلوا عن هذه الظاهرة. قال نيتشه: "ليس الإنسان إلا حيواناً يستطيع الضحك". وكأن الضحك دليل على وعينا، على قدرتنا على تجاوز عبء الحياة للحظة واحدة، أما الموروث الشعبي، فقد كان أكثر قسوة حين قال: "من يضحك بلا سبب، فهو قلة أدب". لكن، أليس الضحك أحياناً بلا سبب هو أكثر أنواع الضحك براءةً؟ أليس لحظة الضحك الصافية، غير المشروطة، أعظم انتصار على ثقل الواقع؟

 

الضحك والابتسامة ليسا وجهين لعملة واحدة، فالابتسامة سلوك اجتماعي، أو هدية مهذبة، أو ربما واجب كما قدمها لنا الدين الإسلامي، أما الضحك، فهو تمرد، أو خروج عن النص، أو تصرف لا إرادي يكشف لحظة صدق نادرة.

 

لكن الضحك، رغم تلقائيته، قد يتحول أحياناً إلى حدث بحد ذاته، أو إلى مركز جذب غير مخطط له!، أتذكر صديقاً لنا، كنا نلتقي في مطعم أو في جلسة عامة، وكان الجو دائماً خفيفاً، مليئاً بالمزاح والحديث غير الجاد، ولم يكن هناك شيء يدعو إلى الانتباه، مجرد أصدقاء يستمتعون بلحظاتهم بعيداً عن ثقل الأيام، لكن هذا الصديق، كان يمتلك ضحكة لا تشبه غيرها، ضحكة تنفجر كعاصفة لا يمكن إيقافها، وتأخذه نوبة لا يستطيع السيطرة عليها، فتبدأ نظرات الحاضرين بالتوجه نحونا، وكأننا أصبحنا فجأة! محور المكان.

 

في البداية، كنا نحاول التظاهر بعدم الملاحظة، فنكمل حديثنا وكأن شيئاً لم يكن، لكن كيف يمكنك أن تتجاهل انفجاراً بهذا الحجم؟ لم يكن يضحك وحسب، بل كان يملأ المكان كله بضحكته، فتتحول طاولتنا إلى نقطة جذب، وتبدأ الهمسات من حولنا، بل وأحياناً تتغير مواضيع جلسات الآخرين من الحديث عن أعمالهم ومشاغلهم! إلى محاولة تحليل سر هذه الضحكات المجنونة!، البعض كان يبتسم تضامناً، والبعض كان ينظر إلينا باستغراب!، بينما كنا نحن نحاول دون جدوى أن نضبطه، لكن عبثاً نحاول، فكلما حاولنا تهدئته، كلما زاد ضحكه، حتى أننا في لحظة ما، لم نعد نعرف هل نضحك معه، أم نحاول جاهدين أن نتظاهر بأننا لا نعرفه!

 

كان هذا الصديق كمن يجرّ الجميع إلى عالمه، لا يكترث بنظرات الآخرين، ولا يحاول حتى أن يعتذر، أو يشرح سبب ضحكاته، وكأنه يذكرنا بحقيقة بسيطة: أن الضحك، في النهاية، ليس شيئاً يجب أن يُفسَّر، بل يُعاش بكل فوضاه وسخريته، دون حسابات.

 

في نهاية المطاف، الضحك كالمطر، قد يكون خفيفاً ينعش القلب، أو عاصفاً يجرف كل شيء، لكنه في كل حالاته، يظل ذلك الحيز الصغير الذي يمنحه الإنسان لنفسه، وكأنه يختلس لحظة حياة خالصة!، هو لحظة انفلات من قبضة الجدية، ومساحة لا يطالها المنطق، وفسحة لا تخضع لحسابات العقل!، ربما لهذا السبب، نجد أنفسنا أحياناً نضحك حتى البكاء، أو نشعر بضحكة لا تتوقف، وكأنها دخلت في دائرة لا نهائية، فيما يُعرف علمياً بهستيريا الضحك، وهي ظاهرة نفسية قد تحدث عند الإجهاد العاطفي الشديد، أو حتى عند مواجهة موقف يتجاوز قدرة العقل على الاستيعاب، فيردّ الفائض العاطفي بطريقة تبدو عكسية، لكنه في الواقع، نوع من إعادة التوازن الداخلي.

 

ومن المفارقات أن الضحك المفرط، رغم كونه قد يبدو بلا معنى، يحمل أحياناً حكمة دفينة!، فهو ليس مجرد استجابة لمحفز خارجي، بل أحياناً يكون انعكاساً لحالة نفسية عميقة، كأن النفس تحاول خداع الحزن بالضحك، أو ربما تحاول استعادة توازنها عبر موجة من السعادة المفاجئة، لهذا، حينما نسمع ضحكة صادقة، فإننا لا نستطيع مقاومتها، بل ننجرف معها، لأن الضحك الصادق مُعدٍ، ولأننا في النهاية، نبحث عن تلك اللحظات التي تكسر رتابة الحياة.

 

وربما الآن، بعد أن قرأت هذه الكلمات، ستجد نفسك تبتسم دون سبب واضح، وكأن الضحك قرر أن يمر بك مرور الكرام، ليذكرك بأن الحياة، رغم كل شيء، تستحق أن نضحك من أعماقنا، ولو للحظة واحدة خالصة، بلا حسابات.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...