الصراع الداخلي: همس
الفوضى وصدى القلب!
تخيل أن
الإنسان هو مسرحٌ صغير، يقف عليه بطل واحد يرتدي أقنعة متعددة، يتبدل وجهه مع كل فكرة
عابرة، وكل نبضة قلب خفية!، الصراع الداخلي ليس سوى حوار صامت بين هذا البطل وأقنعته،
حيث تتقاطع الأسئلة مع الإجابات الناقصة، وتتصادم الرغبات مع الحقائق القاسية، إنه
صراع لا يسمعه أحد، لكنه يعلو فوق كل ضجيج، كصوت الريح عندما تمر بين أوراق شجرة جافة
في مساء خريفي بارد.
في الخارج،
تتراقص الفوضى بلا تنسيق، فوضى الشوارع المزدحمة، والأخبار المتدفقة كتيار لا ينضب،
والمواعيد المتراكمة التي لا تنتهي، لكنها ليست سوى انعكاس لفوضى أعمق، فوضى عاطفية
تتخفى خلف ابتسامة رسمية أو نظرة عابرة، ذلك الحنين غير المبرر، والخوف من فقدان شيء
لا نملكه أصلاً، والشوق إلى لحظة لم تحدث بعد. قالت فرجينيا وولف: "داخل كل قلب
غرفة مغلقة لا يطرق بابها أحد". وربما تكون هذه الغرفة هي الأكثر امتلاءً، رغم
صمتها.
تلك الغرفة
ليست مجرد مساحة معزولة في القلب؛ إنها مسرح الصراع الداخلي الحقيقي!، كل ما يبدو ساكناً
في الخارج، هو في الواقع صدى لمعارك تدور هناك، حيث تتصارع رغبات لم تتحقق مع ذكريات
تأبى أن تنطفئ!، نحن نخشى الاقتراب من تلك الزوايا المظلمة، لأننا نعلم أن فيها الحقيقة
التي لا نحب مواجهتها!، الحقيقة التي تقول إننا لسنا دائماً أقوياء كما نظهر، ولا مستقرين
كما ندّعي، ولا سعداء كما نبتسم.
الصراع
الداخلي ليس دراما صاخبة، بل هو همس متكرر، فكرة صغيرة تتكرر حتى تصبح جداراً يحيط
بالعقل، إنه تلك اللحظات التي تسأل فيها نفسك: "لماذا أشعر بهذا الفراغ رغم امتلاء
حياتي بكل شيء؟" هو العتاب الخفي الذي تلقيه على نفسك، لأنك لم تقل الكلمة الصحيحة
في الوقت المناسب، أو لأنك سمحت لشخص ما بالرحيل، أو لأنك بقيت حيث كان يجب أن ترحل.
أما الفوضى
العاطفية فتشبه أوراق الشجر المبعثرة في حديقة مهجورة، تبدو عشوائية لكنها تخبرك بحكاية
الخريف الذي مرّ هنا، هكذا هي مشاعرنا، مبعثرة، ولكنها تحمل توقيع كل خيبة، وكل أمل
لم يكتمل، والغريب أننا نحاول ترتيب هذه الفوضى الخارجية!، نعيد تنظيم مكاتبنا، جداولنا،
حياتنا اليومية، ظناً منا أننا سنجد الراحة، لكن الحقيقة؟ الفوضى الحقيقية لا تحتاج
لترتيب خارجي، بل تحتاج لشجاعة الاعتراف بوجودها في الداخل.
ربما لهذا
السبب! نخاف من الصمت، لأنه يكشف لنا تلك الأصوات الخفية التي نحاول تجاهلها، فالأصوات
التي تهمس بما نخشى الاعتراف به (أننا أحياناً لا نعرف من نكون، أو ماذا نريد)، أما
النبض الخفي في أعماقنا فهو ليس مجرد إيقاع فيزيولوجي، إنه تذكير بأننا أحياء، وبأن
الحياة لا تُقاس بترتيبها الخارجي، بل بصدق التجربة الداخلية.
وفي النهاية،
تلك الغرفة المغلقة داخل القلب ليست لعزل الألم بقدر ما هي مساحة لحمايته، لأننا نخاف
أن نفقد هويتنا إن فقدنا جراحنا، لكن ربما، في لحظة صدق نادرة مع الذات، ندرك أن الشجاعة
لا تكمن في إخفاء الفوضى، بل في النظر إليها وجهاً لوجه، وقول: "نعم، هذا أنا،
بكل تناقضاتي وصراعاتي، ومع ذلك أواصل المسير".
وربما
تنبع هذه الفوضى من جذورها الأعمق، حيث تتشابك مع المخاوف الصغيرة التي تتسلل بهدوء
إلى تفاصيل حياتنا اليومية، لتصبح امتداداً غير مرئي لذلك الصراع الداخلي الذي نحمله
دون وعي، فالمخاوف الصغيرة هي أوتاد خفية تثبتنا في أماكننا!، فنخشى مثلا من فقدان
مفتاح، أو تأخر رسالة، أو حتى نظرة عابرة لم نفهم معناها، لكنها ليست سوى مظاهر سطحية
لقلق أعمق (الخوف من الهشاشة التي نخفيها خلف أقنعة الصلابة)، تلك الأصوات الخفية التي
تهمس في أعماقنا حين نصمت، ليست سوى أصداء لما لم نقله، وما تمنينا لو قيل.
والنبض
الخفي، هو إيقاع القلب حين نحاول تجاهل ما يؤلمنا، وهو الإشارة التي لا نلتفت إليها
ونحن نبحث عن إجابات خارجية، بينما تكمن الحقيقة في الداخل، وكأن القلب يملك زوايا
مهملة، حيث تتراكم الذكريات التي لم تجد طريقها للنسيان، والمشاعر التي لم تجد الشجاعة
لتظهر.
إننا نعيش
بين فوضى لا مرئية، وصراعات لا نبوح بها، لكن في هذا التناقض يكمن الجمال، لأننا، كما
قال جبران خليل جبران: "من يتألم أكثر، يفهم أكثر". وربما يكون الفهم هو
الخطوة الأولى نحو ترتيب تلك الفوضى، ليس بترتيبها فعلياً، بل بقبولها كما هي، جزءاً
من مسرحية الحياة التي لا تحتاج دائماً لنهاية مرتبة بقدر ما تحتاج لصدق الأداء.
وربما
لا يتعلق الأمر بالفوضى وحدها، بل بما تكشفه لنا عن أنفسنا في خضم هذا التناقض، ففي
عمق كل تلك الأصوات الخفية والمخاوف الصغيرة، نجد أن الخيط الذي يربط كل شيء هو الصراع
الداخلي ذاته، ذلك النزاع الصامت بين ما نحن عليه وما نتمنى أن نكونه، بين ما نخفيه
وما نخشى إظهاره.
إن الصراع
الداخلي ليس عيباً نحتاج لإخفائه، بل هو الدليل الأصدق على إنسانيتنا، إنه الوقود الذي
يحرك تفكيرنا، ويدفعنا للبحث عن معنى أعمق وسط ضوضاء الحياة، وليس الهدف التخلص منه،
بل فهمه، والاعتراف بأنه جزء منا، تماماً كما أن النور لا يكتمل دون ظل، ففي كل لحظة
ضعف، وكل شعور بالحيرة، يكمن جانب آخر من قوتنا، لأننا لا نتطور إلا حين نصغي لذلك
الصراع، ونسمح له بأن يكون مرآة تعكس حقيقتنا دون تزييف.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق