حديث الروح.. البوصلة
التي لا تخطئ!
في صمت
الليل، حيث تنكمش الأصوات وتتسع المسافات بين الأشياء، تبدأ الروح حديثها!، حديثٌ لا
يعبأ بالزمان ولا يخضع لقوانين المكان، بل يتجاوز الحواس ليحفر أثره في جوهر الوجود،
ليس مجرد كلماتٍ تتردد في الأعماق، بل نبضٌ يسري في الذات، يشبه ما وصفه جبران خليل
جبران حين قال: "لا تجعل ثيابك أغلى شيءٍ فيك، حتى لا تجد نفسك يوماً أرخص مما
ترتدي". حديث الروح هو ثوب الحقيقة الذي لا يبلى، ذلك الحوار الذي ينعكس بين الإنسان
وذاته، بين الماضي المثقل بالحنين، والحاضر الذي يتسرب بين الأصابع، والمستقبل الذي
يتراقص في الأفق كسرابٍ نطارده بأحلامنا.
هو الهمس
الذي يعلو حين يخلو المرء إلى نفسه، حين تصمت الضوضاء الخارجية، فيسمع ذاك الصوت الذي
لا يكذب ولا يتملق، بل يعيد الإنسان إلى حقيقته كلما حاول الفرار منها. حديث الروح
هو صدى الحب في المسافات البعيدة، هو ما يبقى حين تسقط الأقنعة، وحين ينظر الحبيب إلى
عيني حبيبه فيرى ذاته في انعكاسهما، إنه الوصال الصامت بين الأب وابنه، حين ينقل نظرة
واحدة ما تعجز عنه الكلمات. هو ما ترنم به إيليا أبو ماضي حين تساءل: "أيها الشاكي
وما بك داءُ… كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟". وكأنه يذكّرنا بأننا لسنا مجرد أجسادٍ
تنبض بالحياة، بل أرواحٌ تحمل في طياتها أسراراً لا تحصى، وتبقى شاهدة علينا مهما حاولنا
إنكارها.
حديث الروح
لا يأتي حين نطلبه، بل حين يكون علينا أن ننصت، وحين يمر النسيم بين الأغصان، ويهمس
الماء في مجراه، حين ينسكب ضوء القمر على دروبٍ لم تعد مأهولة سوى بالذكريات، إنه الشلال
الذي لا يجف، والنبض الذي لا يتوقف حتى حين يخيّل للمرء أن كل شيء قد سكن.
لا أحد
يعرف متى يبدأ حديث الروح، ولا متى ينتهي، فهو خارج الزمن، لحظة تشع كنجمةٍ وحيدة،
تتوهج للحظات ثم تذوب في العتمة. أهو محاكمة صامتة للماضي، أم صدى لجراحٍ تأبى أن تندثر؟
أهو شاعرٌ يلوّح في الأفق، أم ظلٌ ممتدٌ على امتداد صحراء جافة، لا طير فيها ولا ماء،
سوى مرآةٍ صقيلة تعكس الإنسان على حقيقته؟ حديث الروح ليس مجرد همسٍ عابر، بل نداءٌ
للنهوض، ودعوةٌ للسمو، وإصرارٌ على أن تكون الحياة أكثر من مجرد أيامٍ تمضي.
"حديث
الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناءِ"، هكذا قال شوقي، وهكذا نعرفه نحن
حين يأتينا كرسالة لا تخطئ طريقها، إنه الصدق في أنقى أشكاله، والصفاء الذي لا يعكره
الزيف، والنقاء الذي لا يمسه خداع. حديث الروح لا يُسمع بالأذن، بل يُحس في أعمق نقطة
من الكيان!، هناك، حيث لا تستطيع الكلمات أن تكذب، وحيث تَصدُق الدموع حين تنهمر بلا
سبب واضح.
لقد تغنّى
الشعراء بحديث الروح، واحتفى به الفلاسفة، وتناقلته الأجيال في قصص العشاق، وفي حكايات
الأمهات مع الأبناء، وحتى في رسائل الأوطان التي خطّها التاريخ بمداد الشوق، وزارها
القلم بحنينٍ لا يخبو!، لم يكن حديث الروح مجرد كلماتٍ حالمة، بل كان لغةً خفية تفهمها
القلوب قبل العقول، لغةٌ تتجاوز الحروف لتسكن في صميم المعاني. فكيف كان يمكن لسبأ
أن تفهم رسالة الهدهد، لولا أن حديث الروح كان حاضراً، يترجم ما لا تترجمه الكلمات؟
وكيف نام الفتية في الكهف ثلاثمئة عام، لولا أن حديث الروح كان ظلّهم الممتد، يربط
الزمن بالحكمة، والنوم باليقظة؟ قال المتنبي: "ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ…
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعَمُ". فالعقل قد يعجز عن إدراك ما تلمسه الروح بحسّها
الفطري العميق.
حديث الروح
ليس مجرد كلماتٍ تتراقص على شفاه الشعراء، أو تتدفق في كتب الفلاسفة، بل هو ذلك الصوت
العميق الذي يتردد في أعماقنا، ويتغلغل في لحظات التأمل والسكون، ويعيدنا إلى ذواتنا
كلما ابتعدنا، ويمدّ بيننا وبين العالم خيطاً من نور!، هو الحوار الخفيّ بين الإنسان
ونفسه، بينه وبين من يحب، بينه وبين كل ما يحيط به، حتى ذلك الذي لا يُرى، لكنه يُحَسّ،
كالحب، كالإيمان، كصوت الفطرة في لحظة يقظة، إنه ما عبّر عنه جبران خليل جبران حين
قال: "إنما الدنيا حلمٌ، والمرء فيها إما ساهرٌ وإما نائم". فالروح وحدها
تبقى مستيقظة حين يغرق الجسد في سباته الطويل.
حديث الروح
ليس حكراً على العزلة، بل قد يكون رسالة تصل من سجين إلى سجانه، أو من عاشقٍ إلى من
لا يسمعه، أو من ابنٍ إلى أبٍ لم يدرك بعد حجم الفجوة بينهما، أو من مواطنٍ إلى قائده،
يبحث عن وطن يشبه روحه!، بل قد يكون رسالة بين المرء ونفسه، حين يواجه المرآة ولا يستطيع
أن يتجاهل ما يراه فيها. قال محمود درويش: "أنا من هناك، ولي ذكرياتٌ… ولدت كما
تولد الفكرة، كالنغمة المتكررة في وتر الغائبين". حديث الروح قد يكون نداء الغريب
لوطنه، أو صوت المشتاق في منفاه، أو بقايا حلمٍ لم يكتمل.
حديث الروح
هو اللقاء مع من طواهم الزمن، لكنه لم يمحُ أثرهم، أولئك الذين صاروا كنجومٍ بعيدة،
لا يمكن نسيانها أو تجاهلها، ربما كانوا أحباباً، أصدقاء، أو حتى ذواتنا التي تركناها
خلفنا، ظناً أن المضيّ قُدماً يعني النسيان، لكن الروح لا تنسى، بل تحفظ كل شيء كأمانة،
وتعيده إلينا حين نظن أننا نجونا منه!، إنه كما وصفه إيليا أبو ماضي: "والذكرياتُ
صدى السنينِ الحاكي… تثيرُ أسىً وتشعلُ في فؤادي". فما نظنه ماضياً خامداً، قد
يكون جمرةً تتوهج كلما لامستها نسمة الحنين.
كل شيء
في الإنسان قد يتغير: العقل، والقلب، وحتى الضمير!، وحدها الروح تبقى شاهدة، طاهرة،
لا تتأثر بالمظاهر، ولا تنحرف بالرغبات، وإن تعثّر الإنسان، كانت هي ضميره الأعلى،
تشير إلى مسارات الحقيقة وتضيء الدروب التي حاول طمسها. أليست هي ما قصده المتنبي حين
قال: "إذا غامرتَ في شرفٍ مرُومِ … فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ". فالروح
هي ذلك الصوت العميق الذي لا يخفت، حتى حين تضجّ الحياة بالصخب، وتظلّ تهمس في دواخلنا،
وتذكّرنا بأن هناك درباً لا تزيّفه الرغبات ولا تشوبه الزلات.
الروح
مرآة صافية تعكس كل ما في الوجود، ونافذة نطل منها على الكون، فنرى فيه الجمال والقبح،
الخير والشر، هي البصيرة التي تفتح أعيننا على الحقيقة، وتتيح لنا تأمل ذواتنا كما
هي، بعيداً عن الأقنعة التي نرتديها، ورغم ما يمر به الإنسان من تحولات، تبقى الروح
شامخة، لا تلوثها المصالح، ولا تخدعها الأوهام، بل تبقى كصوت الضمير الذي يصوّب الأخطاء
ويشير إلى طريق الصدق.
وليست
الروح مجرد فكرة فلسفية، ولا مصطلحاً دينياً عابراً، بل هي جوهر الإنسان، والرابط الخفيّ
بينه وبين الكون، وبينه وبين الخالق، هي التي تجعلنا نرى العالم ليس بأعيننا فحسب،
بل بقلوبنا أيضاً، هي التي تمنح المعاني عمقها، وتمنح للحب والفرح والحزن والألم أبعادها
التي لا يدركها إلا من يصغي إلى أعماقه، ولعلّ جلال الدين الرومي عبّر عن ذلك حين قال:
"لقد جئتَ تحملُ شمعة، فكن ضوءها، لا ظلّها!". حديث الروح ليس مجرد كلمات
تهيم في فضاء الصمت، بل هو النور الذي يضيء طريقنا، هو ذاك الحنين الذي يعيدنا إلى
من نحب حتى بعد أن يبتلعهم الزمن، فيبقون في سماء الذاكرة كنجوم لا يأفل ضياؤها.
ولا يمكن
أن نذكر حديث الروح دون أن نستحضر ذلك العالم الخفيّ الذي همس في أذن سليمان، وصوت
الملائكة الذي لامس قلب مريم، والليل الذي احتضن النبي في الغار، فالروح لا يعتريها
الغموض، إلا حين نفتقد الشجاعة للإصغاء إليها. حديث الروح هو الصراحة المطلقة التي
تُسجَّل في صحائف الأيام، والصوت الخفيّ الذي يقول لنا الحقيقة حين نحاول تجاهلها.
وفي النهاية،
لا يُخشى على من ينصت إلى حديث روحه، بل على من يغلق أذنيه عنه، لأن الروح تعرف، وإن
أنكر الإنسان، ولأنها تظلّ تكتب التاريخ في صحائف أعماقنا حتى حين نحاول الهروب منه.
حديث الروح هو ذاك الصوت الذي لا يخفت مهما غطّاه ضجيج الحياة، هو البوصلة التي تشير
إلى الحقيقة حين تتشابه الطرق، وهو الحنين الذي يعيدنا إلى ذواتنا كلما ابتعدنا، إنه
الحوار الأبدي الذي يتجاوز حدود المكان والزمان، لأنه ينبع من جوهر الإنسان، من ذلك
النور الخفيّ الذي لا ينطفئ، ومن عيون الحب التي ترى العالم كما هو، لا كما يبدو!،
فمن ينصت إلى روحه، يدرك أن الحياة ليست مجرد أيام تمضي، بل رسائل تُهمس في الأعماق،
تنتظر من يفهمها، ويتبعها إلى حيث ينبغي أن يكون.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق