في مرمى الشُّعلة!
لا تُنبِتُ الحياةُ أزهارَها
إلا في تربةٍ مُختَبَرة.
كأنَّها تُناجيني:
"إن كُنتَ موجودًا... فاثبتْ!"
وليسَ الوجودُ نبضًا فحسبْ،
بل فِعلٌ ثائر،
قيامٌ بعد كلِّ سقوطْ.
يدٌ تلمسُ زهرةً بريّة،
تنتصبُ على ساقٍ هشٍّ،
في مهبِّ العاصفةْ.
من قلبِ الانكسارِ
يولدُ الدليلْ:
ما زلتُ هنا...
حيًّا،
وإن انكسرَ فيّ كلُّ شيءْ.
أنا...
الرَّقمُ الخارجُ عن معادلاتِ الظروفْ!
أنا مَنْ أسقطتْه الإحصاءاتُ الباردةُ
من حساباتِها،
مَنْ عجزت التقاريرُ عن إحصاءِ خيباتِه،
عن قياسِ معاركه وهو يبتسمُ.
لم أُسجَّلْ في قوائمِ "الناجين"،
فنجاتي صنعتُها بمِقاسي:
بشيءٍ من الجنون،
وكثيرٍ من الإيمانْ!
لستُ من جداولِهم،
ولا أحتكمُ إلى مؤشِّراتِ النجاحِ المعلَّبْ.
أربطُ على قلبي كلَّ فجرٍ،
كمحاربٍ يُحكمُ خوذتَهُ قبل المعركةْ.
أُلقِي بنفسي في النهرِ الجاري،
غير آبهٍ بالتيّارْ...
ففيَّ من الصخرِ صلابةٌ،
ومن الماءِ لِينٌ وانْسِكابْ.
الحياةُ ليستْ نزهةً،
في حدائقِ الأرقامِ العقيمة،
العاجزةِ عن شمِّ رائحةِ الألمْ!
هي ساحةُ نزالٍ...
لا مجالَ فيها للخذلانِ
إلّا لحظةً.
لحظةٌ يلعقُ فيها الجريحُ جِراحَهُ...
ويمضي، كأنْ لم يكنْ.
لحظةُ ضعفٍ عابرةٍ لا تُدوَّنْ،
لأنها لا تُرضي الأرقامْ.
لكنها الحقيقةُ الصامتة:
الإنسانُ يُهزَمُ كلَّ يومٍ،
ولكنه لا ينكسرُ أبدًا.
لهذا...
لم يكنْ لي مكانٌ بينهم.
أنا لستُ رقمًا يُقارَن،
ولا نسبةً تُحسب.
بل ظاهرةٌ بشريّةٌ،
تمشي على جمرِ التجربةِ.
خللٌ مقصودٌ
في هندسةِ التوقّعاتْ،
وانحرافٌ نبيلٌ
عن خطوطِ الرسمِ البيانيِّ.
اخترتُ أن أعيش...
لا كما يُرادُ لي،
بل كما يُملي عليَّ ضميري،
كرامتي،
وأحلامي.
لا أنتظرُ فهمًا،
ولا أراهنُ على مِسطرةِ الآخرينْ.
ما مررتُ به... لا يُدرَّس،
وما خضته... لا يُوثَّق.
أنا ببساطة...
ذاكَ الذي يلبسُ الخوفَ معطفًا كلَّ ليلةٍ،
ثم يخرجُ به إلى العالم،
ويبتسم.
لا لعدمِ الشعور،
بل لقراري أن أعلوَ على الشعور،
وأُسمّيه: صمودًا.
أحتضنُ حياتي،
كما يحتضنُ الأعمى
بصيصَ دفءٍ من نورٍ لا يراه.
أتنفّسُها،
كما يتنفّسُ الغريقُ
قبلةَ الأملِ الأخيرةِ.
أحملُ رباطةَ جأشي
درعًا لا يخرقُهُ اليأس.
وأرى في كلِّ ما يأتيني
رسالةً سريّةً من القدر:
لا عداءَ،
بل اختبار...
وما بعدَ الاختبارِ
إلّا درسٌ،
وما بعدَ الدرسِ
إلّا سعيٌ نحوَ المعنى.
ليستِ المقاومةُ نهايةً،
بل بدايةٌ:
أن تُقاتلَ لتبقى واقفًا،
ثم تُفكّرَ لتبقى إنسانًا.
أن تصوغَ من ألمِك فهمًا،
ومن صمتِك رؤيا،
ومن صبرِك جسرًا
يمدّ يدَه...
لكن... لا إلى أيِّ آخرين!
بل نحو من يقدّرون نقاءَ الهواء
بعدَ العاصفة،
نحو من يلمسون العطاءَ
لا ينهشونه.
فحين تُخلقُ البيئاتُ الطاهرة،
لن تكونَ وحدك...
هناك دومًا من ينتظرُ الشرارةَ الأولى.
كن أنت.
وفي سكونِ ما بعدَ الصراعِ،
أدركتُ:
أنّ الله لا يضعُ أحدًا في امتحانٍ،
إلا إذا رآهُ أهلًا للفهم،
أهلًا للحمل،
أهلًا للبقاء في وجهِ العاصفة،
دون أن يفقدَ إنسانيته.
للمختارين من ذوي العقول،
أولئك الذين علّقوا
على جدرانِ أرواحِهم:
"ما زلتُ أتعلم".
وحينَ فهمتُ...
لم يبقَ إلا أن أُكمِلَ السيرَ.
نعم، لا بدَّ أن أعيش،
حتى على أشواكٍ
تنزفُ منها خطواتي.
أعلم أنَّ النتيجةَ غيرُ مضمونة،
لأنّ المسيرَ نفسَهُ
جديرٌ بالاحترام.
النورُ ليس وعدًا،
بل احتمالٌ...
وأنا أراهنُ عليه!
فالقادمُ –
في كلِّ حواسي –
أجمل.
فإنْ كانتِ الحياةُ مُنصِفةً،
فلن تكونَ النهايةُ حزينةً
لِمن أعطى،
وجاهد،
وسعى دون كللٍ،
وبقي وفيًّا لنورهِ الداخليِّ،
ومضى غيرَ مُساوِمٍ على نقائه.
لم يطلبْ من الحياةِ
سوى فُرصةٍ ليكون:
محاربًا لا قاتلًا،
واهبًا لا طامعًا،
تائهًا… دائمَ البحث.
لا شيء يُرعبني الآن،
حتى غموضُ الطريق…
فأنا لا أطلبُ مكافآتٍ،
ولا أرتدي عباءةَ المنتظر.
هذه لعبةُ الحياةِ كما أفهمُها،
وسياسةُ الأقدار.
وأنا – كإنسانٍ –
لن أكونَ رقعةً تتأرجحُ على صراطِ العتاب،
بل نقطةَ الضوءِ
التي أبتْ أن تنطفئ،
وإن طالَ بها الليل.
في النهاية…
كلُّ ما أريده
أن أصلَ آخرَ الدرب،
دون أن أفقدَ قدرتي
على الحب،
على الأمل،
على أن أقولَ للريح:
كنتِ قويّة… لكنني عبرتُكِ.
من لا يُهزمْ داخله،
لا يُهزمُ أبدًا.
هكذا أعيش…
لا كنجاة،
بل كملحمة.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق