الثبات وهمٌ
جميل... بين الشك واليقين!
نحن
لا نرى الحقيقة كما هي، بل كما تنعكس في مرايانا الداخلية، متغيرة، ومتحولة، لا
تثبت على صورة واحدة. بين الشك واليقين، نتأرجح كما لو كنا نمشي فوق جسر ضبابي،
نبحث عن أرض صلبة فلا نجد سوى ظلال تتبدل مع كل خطوة. هل ما نؤمن به اليوم سيبقى
ثابتاً غداً؟ أم أن الحقيقة ليست سوى مرآة متحركة، تعكس وجوهاً متعددة لما نظنه
يقيناً؟ ما أصعب أن يتأرجح القلب بين الحقيقة والسراب، وبين نور اليقين وظلال
الشك، كعابر فوق جسر من ضوء! يوشك أن يتلاشى تحت وطأة التردد، إنه صراعٌ خفي! بين
ما نراه بأعيننا وما نشعر به بقلوبنا، وبين صلابة الواقع ولين الخيال، وبين
الحقيقة التي نلامسها والوهم الذي يلامسنا. هذا الجسر من الضوء ليس مجرد ممر، بل
اختبارٌ لقدرتنا: على الثبات وسط العواصف، وعلى المضي قدماً رغم الأصوات التي تهمس
بالشكوك، وعلى تمييز النور الخالص من السراب المخادع.
نمضي
في درب لا نهاية له، ونحمل أسئلتنا دون إجابات قاطعة! نبحث عن صوت يهدئ اضطراب
الروح فلا نجد سوى أصداء شكوكنا، كأن الحقيقة والوهم وجهان لمرايا متكسرة! تعكس
قلقنا دون أن تمنحنا اليقين. كل خطوة نخطوها تثير تساؤلات جديدة، وكل يقين نظنه
نهائياً يتفتت أمام احتمالات غير متوقعة! نحن عالقون في دوامة من التفكير، كأن
وعينا ذاته يحفر في قلب الزمن بحثاً عن لحظة صافية، وعن لحظة نقية! كالماء لا
يشوبها الشك، ولكن ما أصعب العثور على ماء لا يحمل في أعماقه أثراً من الطمي! لكن
ماذا لو كان الشك ليس مجرد عابر سبيل، بل ضيفاً يستوطن القلب حين يرتبط اليقين
بوجود الآخر؟ أيكون الشك قدر المحبين، حين يصبح الارتباط بوابة للخوف من الفقد،
والخوف من الفقد باباً للارتياب؟ كيف لا يتسلل الاضطراب إلى القلوب حين تتوقف
الطمأنينة على تصرفات شخص آخر، على كلماته ونظراته، على حضوره وغيابه؟
نحن
نربط مصائرنا بقلوب ليست لنا، ونمنح أرواحنا لمجهول يشاركنا الطريق، لكنه قد يقرر
الرحيل دون سابق إنذار. كيف لا يهتز اليقين! إذا كان الحب نفسه قد أصبح سؤالاً،
والثقة ترتجف كشمعة في مهب العاصفة؟ عندما نحب، نود أن نؤمن بأن من نحبهم لن
يخذلونا، ولن يتغيروا، ولن يصبحوا غرباء ذات يوم، لكن الزمن يشهد أن الثبات وهمٌ
جميل، وأننا جميعاً، بطريقة ما، نتغير أو نجبر على التغيير. هل الشك هو مجرد ظل
للحب، أم أنه صدى للخوف الكامن في أعماقنا؟ وهل يمكن للحب أن يكون مطلقاً، صافياً،
لا يعكر صفوه أدنى تردد؟ أم أن الحب ذاته ليس سوى اختبار لصبرنا على شكوكه،
ورحلتنا الطويلة في البحث عن يقينٍ لا ينهار؟
حين
يكون الآخر امتداداً للذات، فإن كل هزة في ثقته تُحدث زلزالاً في كياننا، ويتحول
التساؤل عنه إلى تساؤل عن أنفسنا، كأن الروح التي امتدت إليه وتشابكت معه! لا تعرف
كيف تفك خيوطها حين تهتز العلاقة، فتجد نفسها أمام ارتباكٍ عميق، لا يقتصر على
الشك فيه، بل يتعداه، ليصل إلى أساسات اليقين الذي بنت عليه وجودها. كيف يمكن للطمأنينة
التي كانت يوماً حصناً منيعاً أن تصبح فجأة! ساحةً لعاصفة من الشكوك؟ وكيف يمكن
لامتداد الذات أن يتحول إلى مرآة تعكس ارتجافها بدلاً من ثباتها؟ هل أخطأتُ في
رؤيتك؟ أم أنني لم أكن أعرفك حقاً منذ البداية؟
كم من
مرة نظن أننا نحيط بالآخر، ونفهمه، ونقرأه كما نقرأ أنفسنا، ثم يأتي موقفٌ واحد
يهدد هذه القناعة، فيكشف لنا أننا كنا نرى ما نود رؤيته، لا ما هو عليه حقاً.
أيكون الشك وليد الخيبة، أم أنه وليد الوعي المتأخر! بأننا نحب الصورة التي
رسمناها أكثر من الحقيقة، والتي لم نكلف أنفسنا عناء اكتشافها؟ وإن كنتُ قد أخطأت
في قراءتك، أفلا يعني ذلك أنني أخطأتُ في قراءتي لنفسي أيضاً؟ أم أنني لم أكن
أعرفك حقاً منذ البداية؟ لكن هل نعرف أحداً حقاً؟ أم أننا نكتفي بالملامح التي
تناسب قلوبنا، ونهمل الزوايا التي لا نريد مواجهتها؟ ربما نحن نرى الآخرين وفق
حاجاتنا، فنعكس عليهم أمنياتنا، ونلونهم بأحلامنا، وحين تنقشع الألوان الزاهية،
نصطدم بحقيقتهم كمن يكتشف أن اللوحة التي كان يراها نافذة، لم تكن سوى جدارٍ صامت.
هل هو الشك فيك، أم في قدرتي على معرفة حقيقتك؟ أم هو الشك في إدراكي لما يمكن أن
تكونه؟
كم
مرة ظننا أننا نعرف الحقيقة، فإذا بها تتبدل أمامنا كسراب كلما اقتربنا منه؟ أهو
العجز عن الفهم، أم أن الفهم ذاته نسبي، ومتغير، ولا يستقر على حال؟ قد يكون الشك
فيك مجرد مظهر لشك أعمق، شكٍ في وعينا، وفي إدراكنا، وفي معاييرنا التي كنا نظنها
ثابتة، فإذا بها تتغير! كما يتغير كل شيء. كأن النفس مرآة لا تعكس سوى ترددها،
وكأن ارتيابنا لا يقتصر على الحبيب، بل يتسلل إلى وعينا بأنفسنا.
كلما
تساءلنا عن الآخر، وجدنا أنفسنا في دائرة من الأسئلة عن ذواتنا، كأن العلاقة ليست
مجرد تواصل بين شخصين، بل عملية كشف مستمرة، نرى فيها بعضنا بعيون الآخر، ونرى
الآخر بعيون أنفسنا. وعندما ينكسر اليقين فيهم، نكتشف أن الشك لم يكن فيهم وحدهم،
بل كان كامناً فينا منذ البداية، ينتظر اللحظة المناسبة، ليخرج إلى السطح،
ويسألنا: هل كنت تعرف نفسك حقاً؟
كيف
يمكن للناس أن يصادروا صوت القلب، وأن يضعوا أحكامهم فوق همس الذكرى؟ كيف لهم أن
يتحدثوا بثقة عن شيء لم يسكنوه، وعن مشاعر لم تمسسهم بنارها، وعن تفاصيل لم تسرِ
في عروقهم كما سرت في عروقنا؟ إنهم ينظرون إلى الحب كحقيقة ثابتة، يقيسونه
بمقاييسهم الباردة، كأن العاطفة معادلة رياضية، أو كأن الحنين يمكن وزنه، أو كأن
الخسارة مجرد رقم في سجل التجارب! لكن، ما أضعف تلك الطمأنينة التي بُنيت على فكرة
ثابتة، حتى اجتاحها التيار، وما أضعف ذلك الإيمان الذي لم يحتمل أول شك، وأول نظرة
متسائلة، وأول كلمة صدرت من أفواه لم تعش التجربة، لكنها قررت أن تحكم عليها.
إن
القلب حين يسير إلى الحب مطمئناً، لا يتوقع أن تكون العاصفة في الداخل، ولا يتوقع
أن تأتي الرياح من تلك الزاوية الآمنة! تلك التي احتمى بها يوماً، لكنه يكتشف
متأخراً، أن أكثر الأماكن دفئاً قد تصبح باردة فجأة، وأن أكثر الوعود رسوخاً، قد
تتحول إلى صدى باهت لا يجد من يردده. في تلك المساحة التي بدت يوماً مأهولة
بالوعود، ثم باتت أطلالها شاهدة على رحيل ما كان يقيناً، يدرك القلب أنه لم يكن
يخشى الفقد وحده، بل كان يخشى فكرة أن يكون الحب الذي وثق به مجرد مرحلة، لا حقيقة
أبدية كما ظن.
ومع
ذلك، يبقى التساؤل معلقاً: هل نصدق ما نشعر به، أم ما يراه الآخرون من بعيد؟ أيهما
أكثر صدقاً: الصوت الذي يخرج من أعماقنا، أم الصورة التي يرسمها من لم يعيشوا
التجربة؟ كيف نقنع أنفسنا بأن الحقيقة لا تحتاج إلى تصديق الآخرين، وأن الحب لا
يصبح أقوى لأنهم وافقوا عليه، ولا ينهار لأنهم أنكروه؟ لكن، أيهما أصدق؟ أصواتهم
أم صوت القلب؟ وأيهما أعمق تأثيراً: ما نحسه في لحظة صمت بين كلمتين، أم ما
يستنتجه الآخرون من كلمات لم تقال أصلاً؟
الناس
يقرؤون الحب من الخارج، كمن يقرأ كتاباً دون أن يفهم روحه، يلتقطون الظاهر ويفوتهم
الجوهر، ويرون المشهد ولا يدركون الدراما الداخلية! التي تدور خلف الأبواب
المغلقة، وخلف نظرة صامتة، وخلف تنهيدة مخنوقة لم يسمعها أحد. كيف لهم أن يحكموا
على حب لم يعايشوه؟ وكيف لهم أن يقيسوا حرارة العاطفة بأيدي لا تمتد إلى اللهب، أو
يحكموا على عمق بحر لم يغرقوا فيه؟ وما بين حكم الآخرين وهواجسنا، تبقى المسافة
بيننا وبين الحقيقة غائمة، يملؤها الشك والتردد والخوف! من أن يكون ما دافعنا عنه بكل
ما أوتينا من شغف، مجرد سراب. ويبقى السؤال معلقاً: الطمأنينة التي قادتنا إليك،
هل كانت وهماً، أم أن الزمان وحده من كشف هشاشتها؟
أم
أننا، في نهاية الأمر، نحتاج إلى الوقت لا لنكتشف صدق الحب أو وهمه، بل لنكتشف
أنفسنا وسط كل هذا الضجيج؟ كأن القلب والأذن خصمان في معركة طويلة!، الأذن تسمع ما
لا يريد القلب تصديقه، وتسمع أصواتاً تحاول زلزلة قناعته، وتهتف بأن ما كان حقيقة
ليس إلا سراباً، وأن ما ظنه يقيناً لم يكن سوى خدعة ناعمة. بينما القلب، في
المقابل، لا يكفّ عن المقاومة، يرفض الاستسلام أمام طوفان الشكوك، ويتمسك بنبضه
الأول، وبتلك اللحظة التي شعر فيها أنه لمس الحقيقة، ولو للحظة عابرة.
كم من
معركة صامتة تدور بين القلب والأذن!، وكم من مرة حاول العقل التدخل كحكم بينهما،
لكنه وجد نفسه عاجزاً عن الحسم، فهو ذاته ممزق بين منطقه البارد، وحدسه الذي يخشى
أن يكون مخطئاً. أيهما يتبع المرء؟ هل نصدق العالم الذي يقول لنا: إننا كنا ضحية
وهم، أم نصغي إلى ذلك الصوت العميق بداخلنا!، الذي يتمسك بالحقيقة التي شعر بها
ذات يوم؟ كيف نثق بقناعة لم يعد لها دليل، أو نكذّب إحساساً كان يوماً أوضح من
الشمس؟ أليس الحب، في جوهره، حالة من الإيمان، ومن التصديق الأعمى؟ وإذا كنا نؤمن
بشيء بلا برهان، فهل يكفي أن ينهار البرهان كي نفقد الإيمان؟ أم أن هناك نوعاً من
المعرفة لا يحتاج إلى أدلة ملموسة، نوعاً من الإدراك الذي لا يقاس بالكلمات أو
المنطق؟ ومع ذلك، يبقى السؤال الأصعب: هل تكفي قناعة القلب ليصبح الوهم حقيقة، أم
أن الحقيقة تحتاج إلى أكثر من مجرد شعور؟
هل
يكفي أن نشعر بالحب ليكون الحب موجوداً، أم أن الحب، كأي شيء آخر في هذا العالم،
يحتاج إلى تفاعل، وإلى إثبات، وإلى شيء ملموس يؤكد وجوده؟ وإذا كانت الحقيقة تحتاج
إلى أكثر من شعور، فماذا عن المشاعر التي تصنع الحقائق داخلنا، والتي تغيّر
ملامحنا، وتعيد تشكيل نظرتنا للحياة؟ ماذا لو كان الحب نفسه، بكل يقينه، نوعاً من
الوهم الجميل الذي نختار تصديقه، لا لأنه حقيقة ثابتة، بل لأنه الحقيقة الوحيدة
التي نريدها؟ لكن، هل يكفي أن نشعر بشيء ليكون حقيقياً؟ أم أن الشعور، مهما كان
عميقاً، يظل مجرد صدى لرغباتنا، وانعكاساً لما نريد أن نؤمن به؟
وكيف
يمكن للعقل أن يحسم أمراً لطالما كان ملكاً للقلب وحده؟ وهل من معضلة أشد من هذا
النزاع بين الداخل والخارج، حيث يتصارع الصوت الداخلي مع صخب الحقيقة التي يفرضها
الواقع، وحيث تنشطر الروح بين ما تحسه وما يُقال لها أن تصدقه؟ كأن القلب جزيرة
معزولة ترفض الخرائط التي يرسمها الواقع، أو كأنه قطعة من عالم آخر، عالم لا تحكمه
القوانين المعتادة للمنطق، ولا تعترف به الحسابات الباردة، كأن العاطفة هي اللغة
الوحيدة التي يفهمها، في حين أن العالم من حوله لا يكفّ عن الحديث! بلغة الأرقام
والدلائل والاحتمالات. وكأن الأذن، رغم كل ما تسمعه، عاجزة عن إقناع القلب بأن
ينضم إلى الجوقة، وعاجزة عن جعله ينحني تحت وطأة الأدلة والشهادات والآراء
الخارجية، لأنها تعرف - في أعماقها - أن هناك نوعاً من المعرفة لا يُقال، بل
يُحسّ. لكن أي الفريقين أكثر صدقاً؟ من عرفك كما عرفتك، وأحاطك بنظرة مليئة بالدفء
والتفاصيل التي لا تُرى إلا بالحب؟ أم من رآك بعين لا تغشاها العاطفة، فحكم عليك
بميزان الحياد القاسي، دون أن يشعر بما كنت عليه، أو بما كنت تعنيه؟
هل
الحقيقة أكثر وضوحاً حين تُرى من الخارج، أم أن هناك زوايا لا تُكشف!، إلا لمن كان
قريباً بما يكفي، ليسمع النبض بين الكلمات، وليرى تلك الفجوات الصغيرة بين الحروف
التي لا يلتقطها من يراقب المشهد من بعيد؟ إنها المعضلة الأزلية: هل الحب معرفة
خاصة لا يصل إليها إلا من عاشها، أم أنه وهم لا يراه إلا من وقع فيه؟ وهل الحقيقة
ملك لمن يراها بعين باردة، أم لمن لمسها بقلبه، حتى لو خذلته في النهاية؟
الشك
ليس فكرة عابرة، بل هو سجان يعرف كيف يُطبق قبضته على الأمل، وكيف يحرم الروح من
السكينة، وهو الليل حين يطول، والسؤال الذي لا يهدأ، والصورة التي ترفض أن تتضح
مهما أمعنّا النظر!، فيتسلل في البدء كهمسة خافتة، وكظل خفيف لا نلقي له بالاً،
لكنه سرعان ما يتمدد، حتى يتغلغل في التفاصيل، ويتحول إلى صدى يطرق العقل بلا
هوادة. هل كان الشك يوماً باباً للحقيقة، أم أنه مجرد متاهة أخرى في طريق الضياع؟
هل يقودنا إلى نور الإدراك، أم أنه يشبه السراب، يجعلنا نظن أننا اقتربنا من
الإجابة، فإذا بنا ندور في حلقة لا نهاية لها؟ أهو امتحان لصلابة يقيننا، أم مجرد
لعبة ذهنية لا رابح فيها؟ كم من شخص ظن أنه يبحث عن الحقيقة، فإذا به يغرق في
دوامة من الافتراضات التي لا تنتهي؟
وما
إن يتسلل الشك حتى يتحول من فكرة عابرة إلى قوة طاغية، لا تكتفي بإثارة التساؤلات،
بل تعيد تشكيل كل يقين، كأنها تعيد رسم العالم بظلال من الريبة!، فكل كلمة تُسمع
يُعاد تحليلها، وكل تصرف يُفسر على أكثر من وجه. حتى الذكريات لا تسلم من التشكيك،
فنبدأ في التساؤل: هل كان ما عشناه كما نظنه، أم أن مشاعرنا زينت الصورة بألوان لم
تكن موجودة؟ وهل ما صدقناه بالأمس كان حقيقة، أم مجرد انعكاس لما أردنا تصديقه؟
لكن،
الشك لا يكتفي بأن يكون مجرد فكرة، بل يتجسد كحاكم مستبد، يفرض سلطته على اللحظات
الهانئة، ويقلب الطمأنينة ريحاً عاصفة، ويجعل النوم طيفاً بعيد المنال، فهو ليس
مجرد زائر يطرق الباب ثم يرحل، بل ضيف ثقيل يفرض وجوده، يُجبرنا على استضافته حتى
وإن لم نرغب، ليسرق منا البساطة، ويجعلنا نعيد التفكير في كل شيء، ونحلل، ونشك،
ونعيد النظر فيما ظنناه ثابتاً. لا يسأل الإذن، ولا يمنح فرصة للمراوغة، بل يجر
صاحبه إلى أعمق متاهات التردد، حيث كل باب يؤدي إلى المزيد من التساؤلات، وحيث
الأجوبة أشبه بالمرايا المكسورة، لا تعكس إلا التشظي، وكأننا في مسرح عبثي، نبحث
عن إجابات، لكن كلما اقتربنا منها، اكتشفنا أنها مجرد خدعة، وصورة متداخلة لا نعرف
أين تبدأ وأين تنتهي. الشك يضعنا أمام أنفسنا مجردين من كل يقين، يجبرنا على
مواجهة هشاشتنا، وعلى رؤية الفراغ حيث كنا نظن أن هناك أساساً صلباً، ويتركنا أمام
سؤال لا مفر منه: أيهما أصعب؟ أن نعيش بوهم مطمئن، أم أن نواجه الحقيقة وإن كانت
مرعبة؟
أما
تلك الليالي، فليست مجرد زمن يمضي، بل قوافل من الذكريات، تحمل إلينا صوراً من
الماضي، وتحدثنا بصوتك، ثم تعيد إلينا كل لحظة! كأنها لم تمضِ أبداً. كأن الليل
مرآة تعكس ما ظنناه غارقاً في النسيان، لكنه في الحقيقة كان ينتظر الظلام! ليبوح
بكل ما أخفاه الضوء. فكم من ذكرى ناديناها في وضح النهار ولم تجب، لكنها جاءت في
المساء، محملة بصوت لم يتغير، وبحنين لا يعرف الفتور. نحن لا نعيش في الحاضر
بالكامل، بل نصفنا دائماً عالق هناك، في لحظة لم تكتمل، وفي كلمة لم تُقل، وفي
وداع لم يكن نهائياً كما ظننا.
كأن
أرواحنا نصفان: نصف يواصل العيش، ويمضي مع عقارب الساعة، ويستجيب لمتطلبات الحياة،
والنصف الآخر متجمد في مشهد قديم، يعيد تفاصيله بلا ملل، ويرفض أن يكون مجرد طيف
عابر!، هناك، حيث توقفت قلوبنا للحظة، حيث ابتسمنا أو بكينا للمرة الأخيرة، وحيث
سُرق منا شيء لم نستطع استعادته أبداً. وكأن الماضي يرفض أن يكون مجرد ذكرى، بل
يستمر في التنفس داخل الحاضر، ويطل علينا من نوافذ الوقت، ليؤكد أن الأيام، مثل
الليالي، لا تمضي تماماً، بل تترك بصماتها خالدة في الروح. هذا الماضي العنيد،
نراه في الأماكن التي لم تعد كما كانت، لكنه فيها لا يزال كما هو!، نسمعه في أغنية
قديمة، وفي رائحة عابرة، وفي كلمات سقطت من كتابٍ ما، وكأن الزمن لا يسير في خط
مستقيم كما نعتقد، بل في دوائر تلتقي أطرافها، فنعثر في الغد على أثرٍ من أمس! لم
نودعه كما ينبغي.
وكما
تأبى الليالي أن تمضي دون أن تترك أثرها، كذلك الأيام! لا ترحل حقاً، بل تهمس
بالأمس، كأنه لم يمضِ بعد!، فتلتصق بنا كما يلتصق العطر بالملابس، نحملها معنا حتى
دون أن نشعر، وإن حاولنا الفكاك منها، تبقى كضوء خافت في أعماقنا، لا ينطفئ تماماً،
لكنه يكفي، ليضيء بعض الطرقات حين تشتد العتمة. وفي كل مساء، يعود الركب ذاته،
محملاً بالأحاديث التي لم تنتهِ، وبالأصداء التي لا تزال تدوي في زوايا القلب، كأن
الزمن دائرة مغلقة تدور في مدارك. نفتح نوافذنا على الليل، فنجد أنفاس الماضي قد
سبقتنا، تجلس على عتبات الذاكرة، وتروي علينا الحكايات التي نظن أننا نسيناها،
وربما لهذا، تزداد الليالي وزناً كلما تقدم بنا العمر، كأنها ليست مجرد وقت يمر،
بل رسائل تصل متأخرة، وقلوب تعود بعد أن كنا نظن أنها غابت للأبد.
في
النهاية، ليس اليقين سوى سراب حينما يغيب الوضوح، فهو يتراءى لنا كحقيقة مطلقة،
لكنه قد يكون مجرد انعكاس لما نريد تصديقه، لا لما هو موجود فعلاً!، وهذا اليقين
الذي لا يستند إلى وضوح، يصبح قيداً لا نراه، فيُبعدنا عن الحقيقة بدلاً من أن
يقودنا إليها!، كم من مرة اعتقدنا أننا نمتلك الإجابة، ثم جاء الزمن ليكشف لنا
أننا كنا نتمسك بوهم مطمئن، لا بحقيقة راسخة؟ والشك ليس دائماً عدواً، بل قد يكون
دعوة لإعادة النظر، ولإعادة الفهم، هو ليس مجرد اضطراب يعبث باليقين، بل أداة تكشف
زيفه أحياناً، وتدفعنا نحو رؤية أعمق للأشياء، إنه كالعاصفة التي، رغم قسوتها،
تزيل الغبار عن الصورة، فتظهر لنا التفاصيل التي كنا نتجاهلها!، كم من شك قاد
صاحبه إلى إدراك كان يجهله؟ وكم من يقين تحول، بعد اختبار الزمن، إلى خديعة
صنعناها بأيدينا؟
إن
الشك، حين يكون متزناً، لا يهدم، بل يعيد البناء على أسس أقوى، وهو ليس دائماً ضعفاً،
بل قد يكون علامة على وعي أعمق، وعلى رفض القبول الأعمى بما يبدو بديهياً، ففي
لحظات التردد، قد نجد أقرب الطرق إلى الحقيقة، وقد نكتشف أن اليقين لم يكن إلا
انعكاساً لرغبتنا في التصديق، لا لصحة ما نؤمن به. وهكذا، بين الشك واليقين، تبقى
الحقيقة في المنتصف، تنتظر من يبحث عنها بعين ترى، لا بعين تخشى أن ترى.
الحب
نفسه لغز، ونحن تائهون في محاولة فك شفراته، نمضي بين دروبه بخطى مترددة، ممزقين
بين تصديق القلب الذي يرى بنبضه، أو تصديق العالم الذي يقيس الأمور بمعاييره
الصارمة. فهل ننجو حين نثق بما نشعر به، أم أن النجاة تكمن في اتباع صوت العقل
الذي يطلب منا الحذر؟ وهل الحب الحقيقي أن نستسلم له دون مقاومة، ونترك كل الأسئلة
خلفنا، ونعيش فقط في اللحظة التي تمنحنا السعادة، ولو كانت مؤقتة!، كأننا نختار
العمى عن وعي، لأن العيش في الوهم الجميل قد يكون أحياناً أرحم من الحقيقة
القاسية؟
وربما
يكون العيش في اللحظة مجرد هدنة مؤقتة، لا تلغي الأسئلة، بل تؤجلها إلى حين، إذ
سرعان ما يعود الشك ليطرح نفسه من جديد، متسللاً بين التفاصيل، باحثاً عن ثغرة في
يقيننا، متسائلاً عمّا إذا كنا نرى الحقيقة كما هي، أم كما نود أن نراها؟ وهل
الحب، في جوهره، هو رؤية الآخر كما هو، أم كما رسمناه داخلنا، وفق احتياجاتنا
وأحلامنا؟ لكن، حتى تلك اللحظة التي نظن فيها أننا أدركنا الحقيقة، لا تعني أننا
وصلنا، بل ربما تكون مجرد محطة أخرى في رحلة الوهم واليقين. فالسؤال يبقى معلقاً،
يرفض أن ينطفئ: هل نحن حقاً نعرف من نحب، أم أننا نعرف فقط انعكاساتهم في مرايانا
الداخلية؟ نرى فيهم ما نحتاج إلى رؤيته، ونلون وجودهم بألوان قلوبنا، ثم نفاجأ
عندما تتغير الألوان، ونعتقد أن الحقيقة تغيرت، بينما هي لم تكن واضحة منذ
البداية.
الحب
ليس مجرد شعور يملأ القلب، بل هو مرآة تعكس أعماقنا، تطل بنا على أنفسنا بقدر ما
تطل بنا على من نحب فنظن أننا نرى الحقيقة، لكننا في الواقع نرى انعكاسات قلوبنا،
ونرى أحلامنا ومخاوفنا، ونرى ما نود تصديقه أكثر مما نرى ما هو كائن. فهل الحب
إدراك للحبيب كما هو، أم أنه انعكاس لرغباتنا؟ وهل نحب الآخر حقاً، أم نحب صورته
في داخلنا؟ وبين يقين العاطفة وسؤال الشك، نمضي في رحلة لا تنتهي، بحثاً عن حقيقة
قد لا تكون مكتملة أبداً.
هل
اليقين، حين ينهار، يكشف الحقيقة أم يخفيها؟ وهل سقوطه لحظة استيقاظ، أم بداية
متاهة جديدة؟ ربما لا تكون الإجابة أهم من الرحلة ذاتها، تلك الرحلة التي تجعلنا
ندرك أن الحب، بكل ما فيه من شك وخوف وتردد، هو في جوهره بحث دائم عن حقيقة لا
تكتمل إطلاقا، لأنه ليس علماً يمكن قياسه، ولا منطقاً! يمكن إخضاعه للحسابات، بل
حالة متغيرة، تتحرك مع نبض القلب، وتتشكل مع كل لحظة نعيشها، بين الخوف والرجاء،
وبين الشك واليقين.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق