في مدار الشمس الداخلية:
بحث عن الذات الحقيقية وتجاوز تحديات الحياة!
في البدء،
كنت كصفحة بيضاء، تلوّنها الأيام بما تشاء، وأخطّ عليها بجهل البدايات وسذاجة الأحلام،
كنت أرى الفضائل نوراً لا يخبو، والصدق ميزاناً دقيقاً لا يختل، والحقيقة ثابتة لا
تتغير!، لم أدرك حينها أن الصدق، رغم كونه ميزاناً، لا يحمي صاحبه من أعباء الحقيقة،
ولا يمنحه حصانة ضد خيبات الظن، كما لم أكن أعرف أن الفضائل ليست مجرد تسميات، بل امتحانات
متكررة، بعضها يفوز به القلب، وبعضها يهزمه الواقع.
كيف كنت؟
وما أنا عليه اليوم؟ بين هذين السؤالين تمتد رحلة لا تُقاس بالزمن، بل بالتحولات التي
تشكّلنا وتلك التي نصنعها. في بدايتها، كنا ننظر إلى العالم بعيونٍ مفعمة بالدهشة،
وكأننا نحدّق في سماء لم تُكتشف بعد، لكن مع مرور الوقت، بدأت تلك السماء تكشف عن نجوم
خفية، وظلال لم نكن نتوقعها، وهنا، نجد أنفسنا نتساءل: كيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟
وما الذي يجب أن نفعله لنكون ما نريد أن نكون؟
في هذه
الرحلة، ندرك أن الفضائل ليست مجرد كلمات، بل ممارسات حقيقية، الإحسان، مثلاً، ليس
فعلاً عابراً، بل روح تُزرع وتنمو حتى تصبح جزءاً من كياننا، والصدق لا يحتمل التزييف
أو الرياء، بل هو بوصلة في بحر الحياة، توجهنا حتى في أصعب الظروف، أما الحقد والرياء،
فهما غيوم تحجب الشمس، لكنها لا تستطيع إطفاء نورها، وحين نخطئ، نعود إلى التفكير والتوبة،
فالاعتراف بالخطأ فضيلة تبدأ بالحياء من الله، ثم من الناس.
الماضي
ليس مجرد ذكريات، بل خريطة تحدد كيف وصلنا إلى هنا، وفي كل منعطف، كنت أتعلم أن إصلاح
النفس لا يكون بمحاسبة الآخرين، بل بالإنصات إلى الداخل، حيث تصطف الأخطاء كأبواب تنتظر
من يطرقها بفهم، كنت أبحث عن معيار يضبط المسافة بيني وبين طموحاتي، وأدركت أن ازدحام
الأفكار يشبه الضباب الذي يحجب الرؤية، وأن الاعتماد على النفس ليس مجرد شعار، بل رحلة
متواصلة نحو التوازن بين ما أريد وما أقدر عليه.
البداية
الحقيقية لأي إصلاح هي الذات، فهي العقدة التي تربطنا بالعالم، لا تشتت نفسك بالانتقال
من علم إلى آخر دون إتقان ما بين يديك، فالاستماع العابر لا يُغني، كما أن التعكّز
على أعذار الآخرين لا يصنع تقدماً، والتاريخ مليء بأمثلة تثبت أن الاعتماد على النفس
يرفع الإنسان إلى حيث لا يصل بغيره، فما هو المعيار إذن؟ عد إلى ذاتك، واضبط خطواتك،
وكن واعياً بما تصنع.
في لحظات
السكون، تُذكرنا الطبيعة بأننا لسنا وحدنا!، العصافير تُداعب صمت الأشجار، والسحاب
يذوب في المطر، كما تذوب الذكريات في الزمن، حتى كركرات الأطفال في عرائش الكروم تُخبرنا
بأن الزمن ليس عدواً، بل رفيق يحمل معه نضوج الأحلام، والمستقبل، مهما بدا بعيداً،
تصنعه لحظة يقظة وقرار مسؤول.
كل منا
مسؤول عن رسم مستقبله، واستغلال قدراته ليكون فرداً فاعلاً!، تحقيق الطموحات، واكتساب
المهارات، ومد يد العون للمحتاج، كلها خطوات تبني غداً أكثر إشراقاً، فالتكافل بيننا
هو ما يمنح للحياة معناها، ويجعلنا جزءاً من كلٍّ أكبر.
لا شيء
يُثبت أكثر من الفعل!، أن تخطط، أن تصنع، وأن تتحرك في اتجاه يتجاوز ذاتك، فهذا هو
المعنى الحقيقي للحياة، لا تكفي الأحلام وحدها، ولا يُغني التمني عن السعي، فالتحديات
اليوم تتطلب أدواراً جديدة، لا مجرد انتظار للفرص، بل صناعتها!، أن تكون ذاتك هو التحدي
الأعمق، وأن تطور نفسك بحيث لا تخشى الصعوبات، وأن تكون كالنهر يجري بلا توقف، وكالريح
تهب فلا تُرد.
هناك شموس
في داخلك، أقوى من تلك التي تراها في السماء: شمس الفكر، وشمس الإرادة، وشمس الحقائق
التي تعرفها والتي عليك أن تكتشفها!، لا تسمح لظلام الغضب أن يحجب نورك، فالكراهية
سجن، والحقد قيد، والنفس الحرة لا تنحني لظلمات تلتهم ذاتها، والحياة لا تُقاس بالسنوات،
بل بما أضفته إليها من معنى.
لا تبالغ
في البحث عن نفسك، فالإفراط في التأمل قد يصنع أوهاماً لا حاجة لها، فأنت لست مجرد
انعكاس، بل لحظة في تحول دائم، وفكرة تبحث عن اكتمالها، والزمن ليس عدواً، بل هو الحبر
الذي يكتبك، لا تخشَ الدروب التي لم يسرها غيرك، فالعالم لا يذكر من تبعوا الطرق المعبدة،
بل من شقوا بأقدامهم مسارات جديدة.
أحياناً،
تأتي الأصوات من الماضي، همسات بعيدة، كأنها تربت على كتفك حين تكون وحيداً، والأرواح
الطاهرة لا تختفي، بل تسكن في العبارات التي نكررها دون وعي، وفي العادات التي لم نعد
نفكر بها، وفي دفء الذكريات التي تطرق القلب بلا استئذان، لا تكن أسيراً لما مضى، لكن
لا تنسَ أن الماضي هو من صنع طريقك اليوم.
ليس المجد
في السعي خلف الأضواء، بل في أن تُبقي أثرك حياً بالأخلاق والعمل، كن كالموسيقى، تعرف
متى تعزف، ومتى تصمت، ومتى تكون لحناً لا يُنسى.
في النهاية،
الحياة ليست سباقاً للوصول، بل رحلة لفهم الذات، لا تنتهي إلا عندما نقرر أن نوقفها،
كل ما يحدث هو فصل في كتابك، لا ينطفئ إلا حين تخبو آخر شمعة في داخلك، لذلك، لا تسأل
متى تصل، بل اسأل: كيف تعبر؟ وكيف تصنع من هذه الرحلة قصة تستحق أن تُروى؟ كن كالشمس
التي تشرق كل يوم بلا ملل، وكالبحر الذي لا يتوقف عن التدفق، وكالفراشة التي لا تخشى
التنقل بين الزهور، وقل لنفسك: "أنا هنا، وأنا الآن، وأنا ما أريد أن أكون".
لأنك، في النهاية، أنت من تمنح الحياة معناها.
جهاد غريب
فبراير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق