الاثنين، 17 فبراير 2025

 

بين الممكن والمستحيل: معارك نختارها ومعارك تختارنا!

 

هناك خيط رفيع يفصل بين تحدي الممكن وتحدي اللاممكن، خيط لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يتجلى بوضوح في مسارات حياتنا اليومية، وفي تلك اللحظات التي نقف فيها على عتبة قرار، متسائلين: هل هذا يستحق الجهد؟ أم أننا نسير خلف وهمٍ نُحاول تطويعه ليبدو كأنه حقيقة؟ نُراكم المحاولات، ونُكدس الساعات، ونحرق الوقت في السعي نحو أهداف ربما لم تكن لنا من البداية، ولكن كيف نقنع أنفسنا أن بعض التحديات ليست سوى انعكاس لرغبات مؤقتة، أو صدى لتجارب الآخرين؟ كيف نواجه الحقيقة دون أن نشعر بأننا نستسلم؟

 

العقل بطبيعته مهووس بالبحث عن المعنى، لا يهدأ أمام الفراغ، فيملؤه بأحلام وأهداف ينسجها أحياناً من خيوط الخيال أكثر من الواقع، ربما هذا هو السبب في أن كثيراً من التحديات التي نخوضها تبدو كأنها ضرورة، بينما هي في الحقيقة ليست سوى محاولات للهروب من مواجهة أنفسنا. هل يمكن أن تكون تلك المعارك الصغيرة، التي نخوضها بشغف وتحدٍ، مجرد غطاء لفوضى داخلية نخشى الاعتراف بها؟ ربما، فكما قال نيتشه: "من لديه سبب يعيش من أجله، يمكنه تحمل أي شيء تقريباً". لكن السؤال الأعمق: هل هذا السبب حقيقي أم مجرد وهم نتشبث به؟

 

نحن نختبر أنفسنا في تحديات تبدو مستحيلة، ليس لإثبات قدرتنا فقط، بل لنقنع أنفسنا أننا لسنا عاديين، وأننا مختلفون، وقادرون على تجاوز حدود المنطق، نُريد أن نصدق أننا مخلوقون لأشياء أعظم من حدود يومنا العادي، وأن بداخلنا شرارة لا يملكها سوانا، لكن الحقيقة القاسية تكمن في أن بعض المعارك ليست لنا أصلاً، ومع ذلك نخوضها بشغف من يبحث عن ذاته في أماكن لا تخصه، ربما لأن الاعتراف بأننا لسنا بحاجة لتلك المعركة أصعب من خوضها.

 

الإنجازات التي نراها على هيئة تغريدات ملهمة، أو قصص نجاح لامعة، قد تكون مجرّد لقطات مبتورة من سياقات معقدة، ولقصص لم يُروَ منها سوى الفصل الأخير، وخلف كل صورة بطل يقف على منصة، هناك أيام من الانكسار، وظروف ربما لم تكن لتتناسب مع واقعنا، وتفاصيل غائبة تجعل من المقارنة ظلماً لأنفسنا قبل أن تكون ظلماً للآخرين، نحن لا نعرف القصص الكاملة، لكننا ننسى ذلك حين تلمع أمامنا بريق الإنجاز، فنغرق في وهم أن علينا أن نسلك الطريق ذاته لنصل إلى ما وصلوا إليه.

 

وهنا يأتي التحدي الحقيقي: كيف نُفرق بين ما هو ممكن لنا، وما هو استعراض لأحلام غيرنا؟ كيف نميز بين صوت قلوبنا، وبين صدى أصوات الآخرين؟ ربما يكون الجواب في لحظات الصمت، حين يتلاشى ضجيج العالم من حولنا، وتبقى أفكارنا عارية من أي تأثير خارجي!، حينها فقط، يمكننا أن نسأل أنفسنا بصدق: هل هذا الهدف يشبهني حقاً، أم أنني أرتديه كقناع أخفي به خوفي من ألا أكون "كافياً" كما أنا؟

 

التحدي الحقيقي ليس في أن نخوض كل المعارك، بل في أن نعرف أي المعارك تستحق جهدنا، وأيها مجرد فخاخ براقة تغذيها توقعات الآخرين، لأن أعظم أشكال الشجاعة ليست في مقارعة المستحيل، بل في الاعتراف بأن بعض الأحلام ليست لنا، وأن قيمتنا لا تتحدد بما ننجزه فحسب، بل بما نتجاوزه دون أن نفقد ذواتنا.

 

ربما نحتاج إلى أدوات لا تُباع في الأسواق، أدوات ذهنية وروحية قوامها الصدق مع الذات، أدوات لا تحمل شعاراً ولا تأتي مع دليل استخدام، لكنها تنمو ببطء في زوايا وعينا! كلما واجهنا أنفسنا بالحقيقة المجردة، فالصدق مع الذات ليس مجرد قرار نتخذه في لحظة وعي عابرة، بل هو تمرين شاق ومستمر، أشبه بالوقوف أمام مرآة لا تعكس فقط ملامحنا الخارجية، بل تكشف عيوبنا العميقة، وتناقضاتنا، وهشاشتنا التي نحاول تغليفها! بأقنعة النجاح والانشغال.

 

أن نتعلم فن الإصغاء لصوتنا الداخلي بعيداً عن ضجيج المقارنات هو تحدٍ في حد ذاته، ففي عالم يُقاس فيه النجاح بعدد المتابعين، والإنجاز بحجم التصفيق، يصبح من السهل أن نضيع بين أصوات الآخرين حتى نخشى صوتنا الخاص، لكن هناك لحظات فارقة -تلك اللحظات الصامتة قبل النوم، أو حين نحدق في فراغ لا يقاطعه أحد- حيث يهمس ذلك الصوت الخافت: "هل هذا ما تريده حقاً؟" فنكتشف أننا لم نصغِ إليه بما يكفي، لأن الضجيج كان أعلى من أن يُسمح له بالوصول.

 

اختبار حدودنا لا يعني تجاوز حدود المنطق، فهناك خيط رفيع بين الشجاعة والمجازفة غير المحسوبة، ليس كل قفزة هي تعبير عن الجرأة، أحياناً تكون هروباً من مواجهة ما لا نريد الاعتراف به. لماذا نسعى أحياناً لتحدي المستحيل؟ هل لأننا نؤمن بقدراتنا فعلاً، أم لأننا نخشى أن نبدو عاديين؟ الحقيقة أن إدراك حدودنا لا يقل أهمية عن تجاوزها، لأن الحكمة ليست في أن تكون بلا حدود، بل في أن تعرف أين تقف ولماذا.

 

العائلة التي نشأنا فيها، البيت الذي احتضن أولى خطواتنا، قد يكون قد زرع فينا بذور بعض هذه التحديات دون أن ندرك، هناك دروس لم نتعلمها من الكتب، بل تشربناها من نظرات الأهل، ومن توقعاتهم غير المعلنة، ومن جمل عابرة علقت في ذاكرتنا كأنها قوانين لا تُكسر. "كن الأفضل دائماً". "لا تفشل". "النجاح هو الطريق الوحيد". كلمات تبدو في ظاهرها دافعاً، لكنها قد تتحول إلى عبء خفي يجعلنا نخوض معارك لا تشبهنا، فقط لنثبت أننا جديرون بالحب أو التقدير.

 

تحديات لم نخترها بوعي، بل ورثناها كجزء من هوية لم نسأل أنفسنا يوماً إن كنا نريدها، ربما حان الوقت لنفعل، أن نجلس مع أنفسنا دون خوف، ونفتح دفاتر ماضينا، ونراجع ما هو حقاً لنا وما هو مجرد إرث ثقيل نحمله دون سبب، لأن التحرر الحقيقي لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، من لحظة نقرر فيها أن نكون صادقين بما يكفي لنسأل: "هل هذا أنا حقاً؟ أم مجرد نسخة مما توقعه الآخرون مني؟"

 

التحديات ليست دائماً عدواً، لكنها ليست دائماً صديقاً أيضاً، إنها كمرآة لا تعكس فقط صورتنا الظاهرة، بل تكشف ما وراء الملامح: مخاوفنا العميقة، وهشاشتنا، وحاجتنا الملحة لإثبات أننا أكثر من مجرد عابرين في هذه الحياة!، أحياناً، نظن أن التحديات هي السبيل الوحيد للشعور بالحياة، كأن السكون نقيض للوجود، فننخرط في معارك لا نحتاجها، فقط!، لأن فكرة الركود تخيفنا أكثر من فكرة الهزيمة.

 

التحديات تشبه النبض الذي يذكّرنا بأننا أحياء، لكنها قد تتحول إلى عبء حين نبدأ في خوضها بدافع الخوف لا الشغف، الخوف من أن نبدو ضعفاء، والخوف من ألا نكون مهمين بما يكفي، والخوف من أن يسبقنا الآخرون في سباق لم نفهم حتى قواعده، وهنا يصبح التحدي ليس في خوض المعركة، بل في طرح السؤال الصحيح: هل هذا القتال يستحق حقاً أن أخوضه؟

 

أحياناً، نقاتل ليس لأننا نؤمن بالنصر، بل لأن فكرة التراجع تبدو كوصمة عار نخاف أن تلتصق بنا، لكن الحقيقة أن الشجاعة لا تعني الاستمرار في المعارك حتى آخر رمق، بل في معرفة متى يكون الانسحاب هو الخيار الأكثر نضجاً، لأن الانسحاب بوعي ليس هزيمة، بل انتصار على وهم التعلق بما لا يستحق.

 

الحكمة تكمن في إدراك التوقيت: متى نقاتل، ومتى ننسحب بشجاعة!، متى يكون الإصرار فضيلة، ومتى يصبح عناداً يُهدر طاقتنا دون جدوى!، هناك معارك عظيمة فقط لأنها تناسبنا، وهناك أخرى مهما بدت براقة لا تزيدنا إلا إنهاكاً، لأننا لسنا جزءاً من قصتها.

 

في النهاية، التحديات ليست نهاية الطريق ولا بدايته، إنها مجرد محطات نمر بها، وما يصنع الفرق هو كيف ننظر إليها: كاختبار لقدرتنا على الصمود، أم كفرصة لفهم أنفسنا بعمق أكبر، لأن القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد المعارك التي نخوضها، بل بقدرتنا على اختيار المعركة التي تستحقنا.

 

قال جيمس بالدوين: "ليس كل ما يُواجه يمكن تغييره، لكن لا يمكن تغيير أي شيء دون مواجهته". هذه العبارة تحمل في طياتها جوهر التحديات التي نخوضها في حياتنا، فهي تضعنا أمام حقيقة مزدوجة: أن مواجهة التحديات لا تضمن لنا القدرة على تغييرها دائماً، لكنها الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها نحو أي تغيير ممكن، إنها تذكير صريح بأن الشجاعة لا تكمن في ضمان النتائج، بل في اتخاذ قرار المواجهة، حتى لو كانت النتيجة غير مضمونة.

 

في سياق التحديات التي نعيشها، تصبح كلمات بالدوين كأنها مرآة أخرى تعكس طبيعة معاركنا!، نحن لا نواجه دائماً لننتصر، بل لنفهم، لنكتشف حدودنا، لنتحرر من وهم الهروب الذي قد يبدو أحياناً خياراً أسهل لكنه أثقل على الروح، لأن الهروب لا يغير شيئاً، بل يترك الأمور عالقة في زوايا وعينا، وتنمو كظلال باهتة تذكرنا بما لم نواجهه يوماً.

 

وهنا تتقاطع هذه الفكرة مع معضلة التحدي الممكن والتحدي غير الممكن، فالمواجهة لا تعني بالضرورة النجاح في التغلب على العقبات، لكنها تمنحنا وضوح الرؤية، وتكشف لنا عن حقيقة تلك المعارك: أيها يستحق الاستمرار وأيها مجرد انعكاس لمخاوفنا، أو رغبات لا تخصنا، ربما لا يمكننا تغيير كل شيء نواجهه، لكن كل ما نغيره في أنفسنا يبدأ بمواجهة صادقة، وهذا بحد ذاته انتصار.

 

وربما تبقى العبارة الأصدق التي نختم بها:

"أعظم انتصار قد تحققه في حياتك هو أن تعرف أي المعارك تستحق أن تخوضها، وأيها يجب أن تتركها تمر دون أن تلتفت".

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مُعْتَقُ النُّورِ: رِسَالَةُ الْغَرِيبِ إِلَى صَبِيَّةِ الشَّعَاعِ!

مُعْتَقُ النُّورِ: رِسَالَةُ الْغَرِيبِ إِلَى صَبِيَّةِ الشَّعَاعِ! لَيْسَتِ الأَعْشَابُ سِوَى كَلِمَاتٍ نَسِيَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ!...