حين تتنفس السماء من صدرك!
كانت الغيوم تمرُّ كسفنٍ من قطنٍ مبلل، تجرّ خيولها الخفية خيوطًا من ضوء شاحب على مرآة البحر. وقفتُ على حافة الهاوية الرملية، حيث يلتقي الفناء بالخلود في قُبلةٍ مائيّةٍ أبدية. كل موجةٍ تلفظها الأعماق، هي زفرةٌ كونيّة، همسةٌ قديمةٌ تُكتبُ بلغة الملح والرغوة على سطر الشاطئ، ثم تمحوها اليدُ ذاتها بلا تردد.
تأملتُ المدى، فإذا بي أرتدُّ إلى الداخل، وكأنّ كلّ موجةٍ تلامس قدمي، كانت توقظ موجةً أخرى في أعماقي. شعرتُ أن البحرَ في الخارج لا يختلف كثيرًا عن البحرِ الذي في داخلي.
في صدر الإنسان بحرٌ آخر. أمواجه ذكرياتٌ متلاطمة، وقيعانه أسرارٌ غارقة، ومدّه وجزره نبضٌ واحد بين الفرح والحسرة. كم مرّةً ألقيتُ في أعماقي حجر سؤالٍ ثقيل، فلم يرجع إليّ سوى صدى صمتي المتراكم، كصوتِ نايٍ ينفخ فيه العدم؟ هل المعنى يغرق دائمًا في قاع اللا معنى، أم أننا نبحث عنه بمصابيح مطفأة؟
وحين أغمضتُ عيني عن صخب الأسئلة، رأيتُ وجهها. لم يكن وجهًا، بل كان منظرًا طبيعيًّا للروح. عينان كبُحيرتين مسائيّتين، تعكسان آخر شعاعٍ للشمس قبل أن يغرق في ظلمة الأفق. ابتسامتها كانت كفراشةٍ تهبط على شفة كأس، خفيفةً لكنها تُقلب توازن العالم الداخلي. ذاك هو التناقض الأبدي: أكثر الأشياء جوهريّةً هي الأكثر هشاشةً، كالضوء، كالحب، كذاكرة عابرة على جلد الزمن.
ومن وجهها، امتدّ الشعاعُ نحو ما هو أبعد، نحو الحقيقة الكبرى التي تتنفس فينا. الوجودُ يتنفسّ من خلالنا. نحن لسنا سوى قصبة الوجود الهوائيّة، يَصْفِرُّ الكونُ أنغامه عبر فراغات أرواحنا. كل ضحكةٍ طفلةٍ هي انفجارٌ صغيرٌ للانفجار الأعظم، وكل دمعةٍ حزينةٍ هي قطرةٌ من ذلك المحيط البدئي الذي انبثقنا منه. نحمل في داخلنا ذرات النجوم، وصراخ المخلوقات الأولى، وصمت الأولين.
وبرغم هذا الانسجام العميق، ظلّ سؤالٌ قلبيٌّ ينقر دون كلل: لماذا، إذن، هذا الشعور بالغربة؟ كأنّ الروحَ ترتدي ثوب جسدٍ لا يُقيها برد الوجود ولا حرّ الأسئلة؟ ربما لأننا نسينا لغتنا الأولى، لغة النور قبل تشكّل الحواس، لغة الصمت قبل ولادة الكلمات. نسينا أننا أبناء السماء قبل أن نكون أبناء الأرض.
ها هي الشمس تغيب الآن، تذوب كشمعٍ ذهبيّ في محراب الغرب. الظلّ ينسج عباءته فوق المدينة. في هذه الوهلة الغسقيّة، حيث تتلاشى الحوافّ، أسمع همسًا داخليًّا:
"لا تخف من العتمة، فهي الحاضنة التي منها انبثق النور الأوّل.
الغربةُ وهمٌ، والبحثُ ذاته هو الوطن.
احمل قلبك كفانوسٍ مضيء، فالكونُ بأكمله يترنّم داخل صدرك".
وها هي الرجفة الدافئة تأتي... ليست من دفء الشفق، بل من يقينٍ مفاجئٍ يهبط كطائرٍ وديع: أنَّ هذه العزلةَ الظاهرة هي اتصالٌ أعمق، وأنَّ هذا السؤالَ الذي لا جواب هو الجوابُ الأجمل.
في صميم الوجود، في تلك النقطة السرّية حيث يتلاشى كلّ شيء، هناك حضنٌ كونيٌ دافئ ينتظرنا جميعًا. فقط علينا أن نتجرّأ على السقوط... نحو الأعلى. فأثرُ السماءِ لا يُمحى، طالما القلبُ صفحةٌ مفتوحةٌ للضوء.
هكذا نكتشف أن السماء لم تكن يومًا فوقنا فقط... بل مطبوعةً في صدورنا، فما نسعى إليه في الخارج، كان دومًا يهمس من الداخل.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق