إدارة المزاجية وعلاقتها
بالإنتاجية!
المزاجية
مفهوم واسع وغير محدد بشكل قاطع، فهي ليست مجرد حالة عاطفية عابرة، بل هي عامل ديناميكي
يؤثر بعمق على الإنتاجية، سواء من حيث الكمية أو الجودة، ومن خلال الفهم المتعمق لهذا
المفهوم وتطبيق استراتيجيات مبتكرة، يمكن للشركات تعزيز إنتاجية الموظفين وإدارة تقلباتهم
المزاجية بشكل أكثر كفاءة.
لكن هل
المزاجية حالة أم صفة؟ وإذا كانت حالة، فهل هي سلبية أم إيجابية؟ في جميع الأحوال،
لا يمكن قياس إنتاجية الموظف بناءً على هذا التصنيف وحده.
إذا كانت
المزاجية حالة، فكلنا بشر نمر بتقلبات مزاجية بين الحين والآخر! نحن لسنا روبوتات أو
قوالب جاهزة، بل لدينا مشاعر تؤثر على أدائنا، فعلى سبيل المثال، يمكن للموظفين أن
يلاحظوا حالة زميلهم من خلال تعبيرات وجهه، أو طريقة حديثه، وكثيراً ما يسألني أحد
الموظفين (أثناء خروجي من مكتب المدير) عن مزاج المدير قبل مقابلته، ليتمكن من تحديد
الوقت المناسب لطلب إجازة أو مناقشة موضوع مهم.
أما إذا
كانت المزاجية صفة ملازمة لموظف معين، فمن المؤكد أن بقية الموظفين سيتكيفون مع هذا
الوضع بشكل أو بآخر، وبخصوص تأثير المزاجية على الإنتاجية، فإن الوضع يختلف من حالة
لأخرى، فبعض الموظفين قد يزيدون من إنتاجيتهم عندما يكونون في حالة مزاجية سيئة، وقد
يبقون ساعات إضافية في العمل، على سبيل المثال، هناك بعض الموظفين حينما يخرجون من
بيوتهم غاضبين لأي سبب من الأسباب، قد نجدهم يحترقون وظيفياً في هذا اليوم ويعملون
وينتجون كثيراً، وقد لا يلتزمون بموعد الخروج مع الموظفين، ويبقون ساعة أو أكثر ينتجون
أعمالاً لأنهم قرروا أن يتأخروا في العودة لبيوتهم.
وفي حالة
المزاجية الإيجابية، قد ينخفض الإنتاج، فعلى سبيل المثال، عندما يكون الجو ماطراً أو
صحواً، قد تنعكس الحالة الإيجابية على الموظفين فنجدهم يقضون الوقت في الحديث ويقل
الإنتاج، بل ربما يقررون الخروج من العمل مبكراً للاستمتاع بالجو!، في النهاية، المزاجية
مفهوم واسع يتفاوت بين أن تكون صفة ثابتة أو حالة مؤقتة، والحالة قد تكون سلبية أو
إيجابية، وبغض النظر عن نوع المزاجية، ليس بالضرورة أن تنعكس على إنتاجية الموظف بشكل
مباشر.
إضافةً
إلى ذلك، تؤثر شخصية الموظف بشكل كبير على مدى تعرضه لتقلبات المزاج، فالأشخاص ذوو
الشخصيات الانفعالية، مثل الشخصيات الحساسة والعاطفية، يكونون أكثر عرضة لتقلب
المزاج، مما قد يؤثر على أدائهم اليومي، وفي المقابل، فإن الشخصيات الأكثر
استقراراً عاطفياً، كالشخصيات الواقعية أو التحليلية، تظهر قدراً أكبر من القدرة
على التعامل مع التقلبات المزاجية دون أن ينعكس ذلك سلباً على عملهم، إلى جانب
ذلك، تلعب العوامل النفسية دوراً مهماً في هذا السياق، حيث يُلاحظ أن الأشخاص ذوي
الذكاء العاطفي المنخفض يواجهون صعوبة في التحكم بمزاجهم، مما قد يؤدي إلى انخفاض
إنتاجيتهم، أما من يتمتعون بتقدير ذاتي عالٍ وثقة بالنفس، فهم أقل تأثراً بتقلبات
المزاج وأكثر قدرة على الحفاظ على استقرارهم في العمل.
وفيما
يتعلق ببيئة العمل، فإن ثقافة الشركة تُعد عاملاً حاسماً في تحديد تأثير المزاجية
على الإنتاجية، فالبيئة التي تشجع على التواصل المفتوح وتولي أهمية للصحة النفسية
تساعد الموظفين على تجاوز التقلبات المزاجية وتقليل آثارها السلبية، وعلى العكس من
ذلك، فإن بيئات العمل التي تتسم بالضغط العالي أو بثقافة سامة تميل إلى تضخيم
المشاعر السلبية لدى الموظفين، مما يؤثر سلباً على أدائهم، كما أن تصميم المكان
يلعب دوراً مهماً، حيث تُظهر المكاتب المفتوحة ميلاً لزيادة انتشار التأثيرات
المزاجية بين الموظفين بسبب التفاعل المباشر والمستمر بينهم، بينما توفر المكاتب
المغلقة مساحة من العزلة تساعد الموظف على التحكم في مزاجه بعيداً عن تأثيرات
الآخرين.
بالإضافة
إلى بيئة العمل، تؤثر طبيعة العمل بشكل كبير على كيفية تفاعل المزاجية مع
الإنتاجية، ففي الأعمال الإبداعية، تُعد الحالة المزاجية الإيجابية محفزاً قوياً
للإبداع، حيث تعزز التفكير خارج الصندوق وتفتح المجال أمام الموظفين لتقديم أفكار
جديدة ومبتكرة، وعلى الجانب الآخر، قد تؤدي المزاجية السلبية إلى الحد من الإبداع
بسبب التركيز على الجوانب السلبية، لكنها في الوقت ذاته قد تدفع الموظفين إلى
التركيز على التفاصيل الدقيقة وتحقيق نتائج دقيقة ومحددة.
أما
بالنسبة للأعمال الروتينية، فإن تأثير المزاجية يأخذ مساراً مختلفاً، فقد تساهم
المزاجية السلبية في زيادة الإنتاجية، حيث يسعى الموظفون إلى إنهاء العمل بسرعة
لتجاوز شعورهم السلبي، وفي المقابل، قد تؤدي المزاجية الإيجابية إلى انخفاض في
الإنتاجية، حيث يشعر الموظفون بالراحة وقلة الحاجة إلى الإنجاز السريع، مما يدفعهم
إلى تباطؤ الأداء أو الانشغال بأمور جانبية.
تدعم
الدراسات العلمية هذه الفكرة من خلال تسليط الضوء على العلاقة بين المزاج
والإنتاجية، فقد كشفت دراسة نشرتها Journal of Applied Psychology أن المزاج الإيجابي يعزز
التعاون بين أفراد الفريق، بينما يساعد المزاج السلبي على التركيز الفردي وإتمام
المهام التي تتطلب دقة، كما أكدت دراسة أخرى في Academy of Management أن بيئات
العمل الداعمة تقلل من تأثير التقلبات المزاجية السلبية وتجعل الأداء أكثر
استقراراً، ومن جانب آخر، توضح دراسة من Creativity Research Journal
أن المزاج الإيجابي يمكن أن يزيد الابتكار بنسبة تصل إلى 30%، مما يؤكد
أهمية الحالة المزاجية الإيجابية في بيئات العمل التي تتطلب التفكير الإبداعي.
وللتعامل
مع تقلبات المزاجية في العمل، يمكن تبني مجموعة من الاستراتيجيات على المستويين
الفردي والتنظيمي لتحقيق التوازن المطلوب والحفاظ على الإنتاجية، فعلى المستوى
الفردي، تُعد إدارة الذات أداة فعالة للتعامل مع التوتر الناجم عن المزاجية، ويمكن
للموظفين ممارسة التأمل والتنفس العميق كوسيلة لتخفيف التوتر وإعادة التركيز، بالإضافة
إلى ذلك، يساعد تخصيص وقت يومي لتدوين المشاعر وتحليل مسبباتها في تعزيز الوعي
الذاتي وفهم الأنماط المزاجية الشخصية، ومن جانب آخر، يمكن للموظفين تحفيز
الإيجابية من خلال التركيز على النجاحات الصغيرة في يوم العمل، مما يساعد على بناء
شعور بالإنجاز وتحسين الحالة المزاجية بشكل عام.
وعلى
المستوى التنظيمي، تلعب الشركات دوراً حيوياً في توفير بيئة تدعم استقرار المزاج
لدى الموظفين، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تقديم برامج تدريبية تتضمن ورش عمل عن
الذكاء العاطفي وكيفية التعامل مع الضغط، مما يمنح الموظفين أدوات عملية لتحسين
أدائهم العاطفي، كما يمكن أن تسهم بيئة العمل المهيأة بشكل جيد في تحسين المزاج،
حيث يساعد إنشاء مساحات استرخاء وإضافة لمسات طبيعية مثل النباتات أو الإضاءة
الطبيعية على تقليل التوتر وتعزيز الراحة النفسية.
بالإضافة
إلى ذلك، تشجيع الاجتماعات المفتوحة التي تمنح الموظفين فرصة لمناقشة ضغوطهم
ومشاعرهم يُعد أيضاً عاملاً مهماً لتخفيف حدة التقلبات المزاجية، ومن جهة أخرى،
يمكن للشركات تعزيز الإيجابية من خلال برامج مكافآت تحفيزية تعترف بجهود الموظفين
وتدعم شعورهم بالإنجاز، مما يساعد على تحسين حالتهم المزاجية ودفعهم للعمل بحماس
أكبر.
ولإضافة
أبعاد جديدة لتحليل تأثير المزاجية على بيئة العمل، يُمكن التركيز على دور الذكاء
العاطفي كأداة فعالة لتقليل أثر المزاجية السلبية، ويعزز الذكاء العاطفي قدرة
الموظف على التحكم في مشاعره وفهم مشاعر الآخرين، مما يسهم في خلق بيئة عمل أكثر
انسجاماً واستقراراً. عندما يتمكن الأفراد من التعامل بفعالية مع مشاعرهم، تقل فرص
تأثر الفريق بالتقلبات المزاجية، ويصبح التواصل أكثر إيجابية وإنتاجية.
أما
تأثير المزاجية على الفريق، فإنه يظهر جلياً عندما تنعكس المزاجية السلبية لفرد
واحد على باقي أعضاء الفريق، مما يسبب توتراً عاماً قد يؤثر على أداء الجميع.
لذلك، فإن تعزيز التفاعل الإيجابي داخل الفريق يُعد أمراً ضرورياً للحد من هذا
التأثير، ويمكن تحقيق ذلك من خلال بناء ثقافة تعاونية تُشجع على الدعم المتبادل
وتقليل الضغوط الجماعية.
وتجدر
الإشارة إلى أن تدخل الشركات في الحياة الشخصية لموظفيها لإدارة مزاجهم وتحسين
أدائهم تُعد قضية معقدة تتطلب توازناً دقيقاً من منظور أخلاقي وقانوني. فمن ناحية،
تهدف الشركات إلى تحقيق أقصى درجات الإنتاجية والابتكار، ومن ناحية أخرى، يتمتع
الموظفون بحق أساسي في الخصوصية، وهو ما يجعل تحقيق التوازن بين هذين الجانبين
تحدياً مستمراً.
إن حقوق
الفرد في الخصوصية تُعد أمراً لا يمكن المساس به، حيث إن أي تدخل في الحياة
الشخصية للموظف، حتى لو كان الهدف منه تحسين الأداء، قد يُعتبر انتهاكاً لهذا الحق،
ولذا، فإن حدود مراقبة الموظفين ينبغي أن تكون واضحة وصارمة، بحيث تقتصر على
النطاق الوظيفي دون التعدي على حياتهم الشخصية، فالتدخل المفرط يمكن أن يؤدي إلى
تآكل الثقة بين الإدارة والموظفين، مما يؤثر سلباً على الحافزية والإنتاجية على
المدى البعيد، ولتحقيق التوازن، يجب أن تتبنى الشركات سياسات شاملة تحمي حقوق جميع
الأطراف، مما يضمن الحفاظ على بيئة عمل منتجة مع احترام خصوصية الأفراد.
من
جهة أخرى، الاستثمار في رفاهية الموظفين يُعتبر خطوة استراتيجية ذات عائد طويل
الأجل، فالموظفون الذين يشعرون بالسعادة والراحة يكونون أكثر إبداعاً وإنتاجية، ما
يثبت أن رفاهية الموظفين ليست مجرد عمل إنساني، بل استثمار ينعكس إيجاباً على أداء
الشركة، ومع ذلك، ينبغي أن يكون الهدف من برامج الرفاهية تحسين حياة الموظفين
أنفسهم، وليس فقط تحقيق أهداف الشركة، وإذا شعر الموظفون بأن رفاهيتهم تُستخدم
كوسيلة لزيادة الإنتاجية بشكل مفرط، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية، ولتحقيق هذا
التوازن، يجب أن تركز الشركات على خلق بيئة عمل تدعم الموظفين دون أن تضغط عليهم
بشكل مفرط لتحقيق أهداف الشركة.
المسؤولية
عن تحقيق هذا التوازن تقع على عاتق الطرفين! قد تتحمل الشركات مسؤولية توفير بيئة
عمل صحية وآمنة، مع تقديم الدعم اللازم للحفاظ على الصحة النفسية للموظفين، وفي
الوقت ذاته، يجب على الأفراد تحمل جزء من المسؤولية للحفاظ على صحتهم النفسية وطلب
المساعدة عند الحاجة، والتعاون بين الشركة والموظفين يمثل الحل الأمثل لتحقيق
التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
ومعالجة
مسألة تدخل الشركات في حياة الموظفين تتطلب مزيجاً من السياسات الواضحة، والاحترام
المتبادل، والالتزام بحقوق الأفراد، ومن خلال إيجاد هذا التوازن، يمكن للشركات
تحقيق أهدافها التجارية مع الحفاظ على رفاهية موظفيها، وهو ما يعزز العلاقة بين
الطرفين ويضمن بيئة عمل صحية ومستدامة.
علاوة
على ذلك، توفر التكنولوجيا الحديثة أدوات متقدمة لفهم المزاجية وإدارتها، فعلى
سبيل المثال، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل تعابير الوجه وتوقع الحالة
المزاجية للموظفين، مما يساعد المديرين على اتخاذ خطوات استباقية لمعالجة المشكلات،
كما تتيح أدوات تحليل الأداء فرصة لفهم العلاقة بين المزاجية والإنتاجية، مما
يُمكّن الشركات من تحسين استراتيجيات إدارة الموظفين.
وللتفكير
في المستقبل، يمكن التركيز على تطوير أدوات قياس المزاجية، مثل استبيانات قياس
المزاج (Mood Scales) التي تُدمج مع أنظمة الموارد
البشرية لمتابعة الحالة النفسية للموظفين، كذلك، يُعد تعزيز البرامج الصحية التي
تهدف إلى تحقيق استقرار عاطفي أولوية، حيث يمكن لهذه البرامج أن تقلل من التوتر
وتساهم في تحسين الأداء.
على
الجانب العملي، تقدم شركات مثل Google أمثلة واقعية على كيفية تحسين
بيئة العمل للحد من تأثير المزاجية السلبية، من خلال توفير مساحات استرخاء وبرامج
دعم نفسي، تضمن الشركة بيئة عمل متوازنة تعزز من إنتاجية الموظفين وتقلل من تأثير
التقلبات المزاجية.
جهاد
غريب
نوفمبر
2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق