إذاعاتنا
بين الوعد والحقيقة: هل هي دعوة للتفاعل أم واجهة شكلية؟
تذكرون
تلك الأيام الجميلة عندما كنا ننتظر بفارغ الصبر برنامجنا الإذاعي المفضل؟ كنا
نستعد ونجلس قرب المذياع في شوق حقيقي لنسمع أصواتنا عبر الأثير، وكنا نشعر بأننا
جزء من أسرة إذاعية دافئة، حيث يُستقبل كل رأي بترحاب، وتُدار الحوارات بحب
واحترام، أما اليوم، ومع انتشار القنوات وتعدد الإذاعات، يبدو أن صوت المستمع قد
تراجع وخفت بريقه، فأصبحت بعض الإذاعات ترفع شعارات التفاعل، لكنها تكتفي بعرض
محتوى معد مسبقاً، وكأن التفاعل بات مجرد وهم جميل.
تجربتي
الشخصية مع بعض هذه الإذاعات تُبرز هذه الفجوة بوضوح!، حيث تبدأ البرامج عادةً
بطرح أرقام الاتصال مع وعود براقة للمستمعين بأنهم جزء أساسي من الحوار، فتدعوهم
للمشاركة والتعبير عن آرائهم، مما يوقظ فيهم حماساً وشغفاً كبيرين، لكن ما إن يبدأ
البرنامج حتى يجد المستمع نفسه في فخ الانتظار!، فيمتد لسان الساعة تلو الأخرى!،
وكأنه يسخر من المستمع بين مداخلات الضيوف وحوارات المذيعين معهم، بينما يبقى
الهاتف صامتاً، ودور المستمع معلقاً في أفق وأثير مجهول.
أشعر
أحياناً أن الفائدة الحقيقية لهذه البرامج تكمن في إبقاء المستمع مستمعاً فقط،
ينتظر دوره بلا جدوى، وكأنما الهدف ليس الحوار، بل إبقاؤه مشدوداً لسماع الضيوف
وآرائهم دون أن تُمنح له فرصة حقيقية ليكون شريكاً في النقاش.
إن
هذا التراجع في تفاعل الإذاعات مع جمهورها لا يمكن أن يُعزى إلى عامل واحد فقط!، ربما
تكون ضغوط الوقت والإعلانات هي السبب الأول، حيث تسعى الإذاعات لتحقيق أرباح أكبر
فتُفضل التركيز على الإعلانات والبرامج المعدة مسبقاً بدلاً من تخصيص وقت حقيقي
للمستمعين، وقد يكون نقص الموارد البشرية والتقنية عائقاً آخر، إذ يتطلب التفاعل
إدارة دقيقة وجهوداً مكثفة، أضف إلى ذلك تغير اهتمامات الجمهور مع انتشار وسائل
التواصل الاجتماعي والبث الرقمي، التي أصبحت بدائل أكثر سرعة ومرونة، ومن المؤسف
أن بعض الإذاعات فقدت اهتمامها بقيمة التفاعل كركيزة أساسية، ما أدى إلى تقديم
محتوى يغيب عنه شغف الجمهور وتفاعله الحقيقي.
هذا
التراجع له آثار عميقة، تمتد إلى قلب العلاقة بين الإذاعة ومستمعيها، فعندما يشعر
الجمهور بأن وعود المشاركة ليست إلا شعارات جوفاء، يفقد ثقته بالإذاعة ويبدأ في
البحث عن منصات أكثر تفاعلاً!، الإحباط يتسلل ببطء إلى قلوب المستمعين الذين
ينتظرون بلا فائدة، ما يؤدي إلى تقليص شعبية الإذاعات التي كانت يوماً رمزاً
للتواصل المباشر والحقيقي.
ومع
ذلك، فإن الأمل في استعادة هذه العلاقة لم يغب تماماً، إذ يمكن للإذاعات أن تُصلح
هذه الفجوة من خلال تخصيص برامج يومية تفاعلية تُفسح المجال للمستمعين للتعبير عن
آرائهم بحرية ودون قيود، كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بذكاء يمكن أن
يُعزز من هذا التفاعل، إلى جانب تنويع أساليب المشاركة عبر الرسائل الصوتية أو
التصويت المباشر، ولتحقيق ذلك بفعالية، يجب أن تُعيد الإذاعات تدريب مذيعيها على
إدارة النقاشات بطريقة متوازنة تُبرز أهمية صوت المستمع.
رغم
التحديات، هناك أمثلة مشرقة على إذاعات عالمية وعربية استطاعت أن تحافظ على نبض
التفاعل مع جمهورها.
هيئة
الإذاعة البريطانية (BBC)، على سبيل المثال، تُخصص
وقتاً كبيراً لمشاركة الجمهور في برامجها، بينما يبرز راديو (NPR) في الولايات المتحدة بقصص إنسانية تجعل
المستمع شريكاً في التجربة، أما إذاعاتنا العربية، فقد نجحت مونت كارلو الدولية في
تقديم برامج تمنح المستمعين مساحة حقيقية للمشاركة والنقاش.
التفاعل
بين الإذاعات وجمهورها ليس رفاهية، بل هو روح الإذاعة وسبب بقائها، فعندما تُفتح
أبواب الإذاعة لآراء مستمعيها، تُصبح منصة للحوار الحقيقي والثقة المتبادلة.
دعونا
نحلم بإذاعات تعيد إحياء ذلك الألق القديم، حيث يكون صوت المستمع جزءاً لا يتجزأ
من كل برنامج، لا مجرد وعود تتلاشى في صمت الانتظار.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق